لا أوافق على نشر مخطوطاتي الأدبية في صورتها الأولى المتلعثمة غالبا، والتي تحتاج إلى تنقيح وإعادة نظر في اللغة أو الموسيقى (إذا كانت قصائد شعر). إن المخطوطات الأولى ما هي إلا بروفة للكتابة، قد تصلح لتسجيل الفكرة وقد تكون غرفا من اللاوعي أو العقل الباطن الذي يحتاج إلى نوع من التوجيه والإصلاح والضبط وإعادة النظر.
لذا لم أكن أوافق على نشر ما كتبه نجيب محفوظ في طفولته أو شبابه تحت عنوان "الأعوام" والتي كان يقلد فيها "الأيام" لطه حسين، أو "الحسرات" التي كان يقلد فيها "العبرات" لمصطفى لطفي لمنفلوطي.
وقد اعترف محفوظ أن هذه الأعمال الأولى كانت مجرد تدريب على الكتابة، لذا لم يوافق على نشرها أثناء حياته. لكن أن يأتي ناشر أو كاتب في جريدة ليعيد نشر "الأعوام" فهذا ما لم يكن محفوظ يرضى به لو كان حيًّا. هل كان نجيب محفوظ تنقصه الجرأة على نشر "الأعوام" لو رأى أنها تصلح للنشر أثناء حياته؟
وعلى الرغم من ذلك فقد قام الناقد وعالم النفس الدكتور مصطفى سويف بدراسة الكثير من مخطوطات وبروفات الشعراء وقدّم من خلالها دراسة مهمة تحت عنوان "الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة"، وقام الناقد د. محمد مصطفى أبوشوارب بدراسة مسودات أمير الشعراء أحمد شوقي في قصائده المخطوطة التي تم العثور عليها في "كرمة ابن هانئ". كما قام آخرون بدرسات أخرى في المسرح والرواية وغيرها من مجالات الإبداع.
وأنا من عاداتي الكتابية أن أقوم بالتنقيح والشطب والإضافة أكثر من مرة على نصوصي، إلى أن أراني راضيًا عنها، أو هي راضية عني، فأقوم بإرسالها للنشر.
وقد أفادني كثيرا جهاز الكمبيوتر في الكتابة وحفظ المادة التي أكتبها، تقريبا منذ أوائل التسعينيات، ومع ذلك كنت أعود إلى النص المكتوب بواسطة مفاتيح الكمبيوتر لأقوم بتعديله أو شطب كلمات وإضافة كلمات.
غير أنني حتى الآن لم ألجأ إلى كتابة الشعر بواسطة مفاتيح الكمبيوتر، حيث أكتبه أولا بقلمي الرصاص أو الحبر الجاف، وحين أشعر بالرضا عنه أقوم بكتابته وتخزينه بواسطة الكمبيوتر. على عكس الرواية أو المقالات التي أكتبها مباشرة بواسطة مفاتيح الجهاز، مثلما أنا عليه الآن أثناء كتابة هذه السطور.
أحيانا أعود إلى قصائدي الأولى التي كتبتها منذ أكثر من خمسين عاما بخط اليد، وأحتفظ بها لأقوم بتعديل كلمة أو صورة شعرية أو إيقاع تفعيلة، على الرغم من نشرها في صحف ومجلات بل ودواوين شعرية.
وعموما فالمدارس النقدية الحديثة قادرة على استجلاب قواعد وأسس جديدة تفسر من خلالها النص الأدبي وتجلي معانيه وغوامضه، بعيدا عن مسألة المسودات والبروفات. ومهما يكن من أمر فليس هناك النص الأدبي الذي يرضي طموحات الكاتب مائة في المائة، ولا النص الأدبي الذي يجمع عليه جميع النقاد والمشتغلون بالأدب مائة في المائة، فما دمنا في مجال العلوم الإنسانية فلن يجتمع القوم على رأي واحد، وخصوصا فيما يتعلق بمسألة الجمال.
التعليقات