يبدو أن جسدي أراد يوما أن يعلمني درسا لا أنساه. ربما أشفق على أو لعله قسا علي لكن في كلتا الحالتين لم يرد بي إلا خيرا. أنا وهو كتلة واحدة لا تفترق فما يصيبني يصيبه. بين عشية وضحاها أخذ قرارا منفردا بتخفيف الأحمال ورأى أنه قد آن أوان راحة إجبارية شئت أم أبيت. أصدر أمرا لغضروف صغير في الركبة بالتهتك وللركبة بأن تتورم. انصاعا له وتم تنفيذ الأمر دون نقاش. تقول كتب الطب أن لا سبيل لتهتك غضروف مثله إلا السقوط أو الالتواء أو إساءة الاستخدام. لكنني لم أفعل أيا منهم. يقول الطب الحديث، أن الجسم البشري ذكي ويتفاعل مع مشاعرنا ويتحرك وفقا لها. لكل علة في البدن سبب نفسي دفين. لم أكن مقتنعة تماماً بهذا الكلام لكن بعدما حدث أعدت النظر في تأمل، وصمت، واستسلام .
أصدر الغضروف حكما إجباريا بالراحة وأيده الطبيب في ذلك. هددني كلاهما بالتدخل الجراحي إن لم أستجب فرضخت عاجزة عن مخالفة الأوامر. وها أنذا أجلس على أمل أن يلتئم وأتوكأ على عكازي لأخفف عنه حمل حركة لا مفر منها لكل كائن بشري. أتذكر لائحة تحركاتي اليومية سابقا فأعقد حاجبي غير مصدقة كيف كنت أقوم بكل هذا وحدي؟! أطالع التفاصيل الصغيرة التي حرمت منها فأود لو أن الزمن توقف بي هناك. روتين الأمس التلقائي أصبح اليوم حلما ينتظر تحقيقه بتنهيدة ورجاء.
ويبدأ الندم والحسرة في العمل. ليتني ذهبت لفلان وليتني زرت علاناً. ما مللته منذ أسبوع مضى هو اليوم منتهى الأمل. أنظر حولي! ليت الأمر يتعلق بي وحدي. ماذا عن هؤلاء الذين أرعاهم؟ من سيدير شئونهم؟ كيف سيأكلون؟ من سيوصلهم للمدرسة؟ من سيبتاع طلبات البيت؟ من ومن ومن.. كنت دوما أفضل شراء كل شيء بنفسي ولم أعتد تطبيقات الشراء والمتاجر الإلكترونية. حسنا أيها الغضروف لقت بدأت في تلقي رسالتك. لابد من تغيير أسلوب حياتي. الحركة الفعلية ممنوعة لكن من حقي القفز، والجري، والتجول بحرية في كل المواقع الإلكترونية التي كنت أنظر إليها يوما بتعالٍ وأشكك في كفاءتها.
أقعدني غضروف، فأدركت أن الكون لا يتوقف علي وأن كل الالتزامات الطاحنة التي قيدت نفسي بها يوميا يمكنها أن تؤجل. الحياة مستمرة بدون كل ما كنت أفعله. الحياة لم تتوقف لأنني لم أفعل هذا أو ذاك. أولادي الآن مجبورون على إدارة حياتهم والتفكير في وسائل تسهل عليهم غيابي عن تفاصيلها. حان وقت اعتمادهم على أنفسهم! من يشتهي شيئا فعليه تعلم كيفية طهيه ومن يريد ملابس نظيفة فعليه جمعها وغسلها ثم تجفيفها وكيها. الآن يدركون أن التفاصيل الصغيرة كانت تكون بحرا من المهام التي لا تنتهي بالنسة لي. اعترفت ابنتي: كيف كنت تقومين بكل هذا في نفس الوقت؟ كيف كنت تجمعين كل هذه الأعمال المتضاربة في يوم واحد وتقومين بها بكفاءة؟ لم نكن نتخيل أن خلف كل مشهد نهائي نراه هذا الكم الهائل من الجهد والحركة الدؤوب. ابتسمت وأنا أراهم يحافظون على نظافة البيت لأنهم تعبوا في ترتيبه وتنسيقه. لم يعد أحد يترك طعاما مهملا في الأطباق فطهي الطعام عسير وجلبه جاهزا رفاهية لا يمكن تكرارها كل يوم.
أقعدني غضروف، فلقنني درسا في شكر نعمة الحركة ونعمة الصحة. جعلني هذا الغضروف الصغير أتأمل المعجزة البشرية وكمال صنعها. أغوص داخل تشريح جسمي فتذهلني الدقة والبراعة الإلهية. (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) أبصرت يارب! ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) حقا وعدلا يارب! نؤمن بالله ونحمده ونثني عليه كل يوم لكن يلزمنا وقفات مع النفس لندرك ضآلتنا وضعفنا. اعتدنا النعم فظننا أننا قادرون على كل شيء. اعتدنا الصلاة واعتدنا السجود بآلية فها أنذا أشتاق للسجود والاقتراب.
كبلني غضروف، فرأيت نفسي ورأيت الآخرين من حولي. رأيت من التمس لي عذر غيابي ومن وجه لي اللوم لامتناعي عن أداء ما عودتهم عليه. أجبرتني الراحة على النظر في مرآة نفسي وإعادة ترتيب أوراق مضت وأخرى لن تشبه سابقتها. أنا الآن مجبرة على الاعتناء بنفسي والبحث عما يسعدها ويؤنسها في ساعات خمولها الطويلة. صالحت كتبي التي كنت أعطيها فتات وقتي ودفتر مذكراتي الذي هجرته طويلا. وجهت وجهي شطر مكتبتي العامرة التي كنت سابقا أضعها في آخر قائمة زياراتي. كنت يوما أتضجر من كثرة انشغالاتي وتغلب الواجبات على الأوقات. حقا لو كنا نعلم الغيب لاخترنا الواقع!
التعليقات