تستكمل الأم (مصر) بلغة بسيطة تعبر عن بعض مشاعرها، لتُنهي حديثها عن ابنها البطل الشهيد إبراهيم عبد التواب قائد ملحمة كبريت.. تقول:
كان الجنود يصحوا يلاقوا إبراهيم عبد التواب، قائدهم، فى كامل ثيابه متواجد فى كل شبر من الموقع، وكان هو آخر حد يشوفوه قبل ما يناموا.. وطول النهار يقعد يكلمهم.. يحمسهم.. يسمع مشاكلهم.. ويسمع أشواقهم وحكاياتهم وحنينهم لأهاليهم وأحبابهم.. لكن ما فيش واحد منهم يفتكر إن إبراهيم أتكلم عن نفسه وهما سمعوه ... غير مرة وحيدة .. وبالليل .. قال للظابط اللى كان بيقاسمه ملجأ النوم "عندي تلت أولاد منى وطارق وخالد.. آخر مرة شوفتهم فيها كانت قبل الحرب بتلت أيام، كنت قاعد معاهم بجلد لهم الكراريس والكشاكيل عشان المدرسة.. وقبل ما أسافر دخلت عليهم وهما نايمين .. كنا الفجر.. بوستهم وسافرت .." كان إبراهيم عبدالتواب وفى اثناء شهور الحصار.. كل يوم وبعد صلاة الضهر يقعد مع الجنود يشرح لهم بعض الآيات وأسباب نزولها ويرد على استفسارات رجالته، وكان بيطلب من المسيحيين قراءة الإنجيل باستمرار وفى قلب الموقع خصص قطعة من الرمال استخدمها المسلمين كمسجد واستخدمها المسيحيين كنيسة.. من فوق نفس الرمال توجه كل منهم الى الله يدعوه، وفى كل يوم جمعة كان صوت إبراهيم عبد التواب يرتفع بخطبة الجمعة، و يؤم المصلين.. وكان حريص على توفير جزء من الإمدادات.. عشان يوزعه على المقاتلين صباح يوم العيد كنوع من الترفيه، وفى يوم 7 يناير فوجئ المسيحيين فى الموقع بإبراهيم بيوزع عليهم نفس الترفيه.
وفى يوم وزع برتقالة على كل أربع افراد، وأخد جنود موقع الملاحظة المواجه للعدو البرتقالة بتاعتهم.. وقالوا مش هاناكلها.. عارفين ولادي عملوا أيه بالبرتقاله؟
مسكها واحد منهم وفضل يرميها لفوق ويستقبلها بإيده تاني .. بيلعب بالفاكهة .. عشان جنود العدو يشوفوه .. عاوز يوحى لهم بوفرة الطعام فى الموقع ..كان فيه راديو وصل كهدية من قيادة الجيش التالت مع أحد قوارب الإمدادات، وكان الراديو دا هو وسيلة الاستماع للعالم الخارجى، لكن كانت المشكلة في بطاريات الراديو.. مافيش كهربا طبعا.. فكان إبراهيم حريص ابراهيم على استخدام الراديو بحذر، ما كانش بيفتحه إلا لسماع نشرات الأخبار والقرآن الكريم .
وبعد صلاة العصر يبدأ ابراهيم فى المرور على الجنود مرة أخرى حتى ميعاد المغرب.. وبعد صلاة المغرب يبدأ الرجال فى تناول الوجبة التانية والأخيرة ثم يبدأ توزيع المقاتلين على خدماتهم الليلية.
الساعة 7.45 يسمع الموقع القرآن المذاع من صوت العرب، الساعة الثامنة يسمعوا القرآن المذاع من إذاعة البرنامج العام، ثم نشرة الأخبار ، والساعة تسعة يبدأ ابراهيم فى المرور على الخدمات الليلية مع الضباط ويستمر هذا المرور حتى الفجر.
إبراهيم وضباط الموقع ما كانوش بيناموا إلا لمدة قصيرة لا تتجاوز ثلاث ساعات على امتداد اليوم كله.. ومع قلة الأكل كان بيحس بدوخه لأنه كتير كان بيوزع وجبته على الجنود اللى كان بيحس إن فيهم ضعف.
كان الحدث اللي بيرفع الروح المعنوية عند كل جنود الموقع إنه يحصل اتصال لاسلكى من قيادة الجيش التالت، وحرص اللواء أحمد بدوى على تجنيد جميع أجهزة الجيش لإمداد موقع كبريت، وفى الجانب المقابل حرص إبراهيم على ألا يثقل على قيادة الجيش بالمطالب.. ونظرة واحدة لسجل الاتصالات اللاسلكية الخاصة بالفترة دي تثير التأثر الشديد مهما مرت السنين.
كانت قيادة الجيش التالت تلح فى معرفة مطالب الموقع، ويجيب ابراهيم عبد التواب "طمنونا انتم على أحوالكم .. إحنا بخير ونقدر نتصرف.." كان إبراهيم عبد التواب روح موقع كبريت.. لا يزرع الصمود فى النفوس فقط، إنما يزرع الحب ويعمق الإنسانية بين الرجال، كان متواجد فى حياة كل إنسان بالموقع، لا يطلب أداء عمل صعب إلا ويكون هو أول من يقوم به مهما كانت نوعية هذا العمل واستمر جهده الفذ متصلاً منذ بداية الحصار ولمدة 134 يوم وفى يوم 14 يناير 1974 قام العدو الإسرائيلي بتحريك بعض عرباته المدرعة فى مواجهة الموقع وأمر إبراهيم عبد التواب بإطلاق النيران. وأصيبت عربة معادية إصابة مباشرة، وتكبد العدو خسائر جديدة.. اتجننوا وفتحوا النيران على الموقع من كل مكان.. وكالعادة كان إبراهيم فى الموقع المتقدم يوجه المدفعية عند الحد الأمامي وكانت الساعة عشرة إلا عشرة صباحا عندما اتخذت دانة مدفع هاون عيار 81 مللى طريقها الى تلك النقطة المتقدمة .اللى كان فيها إبراهيم عبدالتواب.
استشهد ابني البطل إبراهيم عبدالتواب الساعة عشرة إلا عشرة صباح يوم 14 يناير 1974 بعد حصار وحفاظ على الأرض استمر لمدة 134 يوم، واتولى قيادة الموقع المقاتل سعد الدسوقي اللى وصلته برقية من قيادة الجيش التالت، بتقول "من هيئة عمليات القوات المسلحة إلى المقاتل محمد سعد الدسوقى قائد موقع كبريت شرق ، جميع القوات المسلحة تقدر فيكم روح البطولة والفداء، وتحيى روح الشهيد إبراهيم عبد التواب، أملنا وثقتنا كبيرة فى صمودكم وثباتكم تحيتنا لجميع رجالكم، إلى الأمام على طريق النصر" .
وتعاهد الرجال على الصمود، وقالوا لبعض "الشهيد القائد إبراهيم عبدالتواب كان عاوز كدا ولابد أن نحقق له ما أراد".
وزي ما طلب منهم في يوم "يوم ما استشهد .. ادفنوني على مستوى الأرض مش تحتها .. عشان أكون معاكم"، وقاموا بدفنه على مستوى الأرض، واحتضنه الرائد محمد سعد الدسوقى اللى خلفه فى قيادة الموقع وكل الأبطال حواليهم بيودعوه.
وكانت الدانة اللى استقرت إحدى شظاياها داخل جسد الشهيد إبراهيم عبدالتواب آخر دانة تُطلق على الموقع، انسحب العدو بعد أيام تنفيذاً لاتفاقية فصل القوات وبقى موقع كبريت إلى الأبد رمزاً للشرف والصمود.
التعليقات