عبارة ملأت مواقع التواصل الاجتماعي منذ بدء العدوان على غزة لا أعرف مصدرها تحديدا لكنها تحاصرني في كل مكان. يكتبها الناس في منشوراتهم ويتبادلونها كتعليق قوي على الأحداث والصور ودعوات المقاطعة لكل ما هو أجنبي ومتواطيء في مؤامرة القضاء على جيل فلسطيني ناشيء وبنية تحتية شيدت بشق الأنفس. لكن هل حقا أحيت هذه الغمة أمتنا من سبات عميق دام لسنوات أم أن هذا ما نرجوه ونتمناه في قرارة أنفسنا؟
ما لفت انتباهي حقا هو هذا الجيل الذي ولد ليجد نفسه مرتبطا ارتباطا وثيقا بشاشات المحمول والآيباد والكمبيوتر وخلافه. نجحت الأمهات في فطام أطفالها من كل شيء إلا الشاشات التي سيطرت على حياة جيل كامل. يبدأ ارتباط الطفل بشاشة تبث أفلام الكارتون فتلجأ إليها الأم مرحبة كوسيلة إلهاء تبقيه منشغلا عنها ليمنحها الوقت والحرية التي تريدها ولو لساعات قليلة. يكبر الطفل وتكبر معه الشاشات فيصبح لديه هاتفه الخاص أيضا بمباركة الأهل فبغيره لا يمكنهم متابعته في أثناء الخروج وعن طريقه يتم التواصل مع المدرسة والزملاء ومتابعة الواجبات والالتزامات. ويوما بعد يوم يصبح الطفل لصيقا بشاشته ويتنقل من واحدة للعب لأخرى للدراسة. ويكبر الطفل ليصبح شابا وتنهال عليه الأفلام والفيديوهات والألعاب الإلكترونية. يدمن البعض كل ما هو سيء وتفشل محاولات بعض الأهالي في السيطرة.
يغرق جيل كامل في بحر التكنولوجيا وينبهروا بكل ما يبثه لهم العالم الخارجي من أفكار وأساليب لحياة أكثر تقدما وانفتاحا بل وانفلاتا. ينخلع البعض من هوياتهم ويقلد البعض الآخر كل رموزهم المفضلة من المغنيين والفنانين والملهمين المزعومين في مظهرهم الخارجي ووشومهم وطرق تصفيف شعرهم. يستبدلون لغتهم العربية بلغة أجنبية يتفاخرون باتقانها ويتحولون لمسوخ مطموسي الهوية وتنفطر قلوب الأهالي لرؤيتهم على هذه الحال. تمتليء المدارس والجامعات والشوارع بهذا الجيل المزدوج الذي يرفع رأسه احتراما للغرب وينفض عن رأسه أفكار العروبة والهوية والدين باعتبارها أفكارا عفى عليها الزمن ولا رجاء منها. يرفع أعلام دول غربية ويعتز بانتمائه الفكري لها في الملبس والمأكل والمشرب والمظهر ولغة التواصل.
ويستيقظ هذا الجيل يوما على شاشات هواتفهم ووسائل تواصلهم الاجتماعي على مشاهد مروعة لأشلاء أطفال لا ذنب لهم سوى أنهم عرب وفلسطينيون. تنهال الصور والأفلام عليهم من كل مكان. يهرعون لمواقعهم الغربية التي يبجلونها ويعتقدون في نزاهتها وقيمها ومثلها العليا لتكون الصدمة الكبرى فالأمر لا يعنيهم والدماء لا تعكر صفو حياتهم بل والأدهى أن هذا الغرب الذي يحبون يقف مع المجرم ويلوم الضحية! وفي غمضة عين تنكشف الغمة ويتحول هذا الجيل الذي حسبناه يوما جيلا تافها مغيبا إلى مدافع شرس عن أرضه وهويته وبني جلدته مستخدما اللغة الأجنبية التي أتقنها كأهلها ليتكلم ويوصل رسالته للعالم في شجاعة وحكمة. أذهلنا هذا الجيل الذي حسبناه ضائعا بأنه على قدر لا بأس به من الوعي والقدرة على التصدي للظلم والدفاع عن الحق. هذا الجيل الذي كان يتناول وجباته الغربية ويشرب مشروباته ليل مساء من أفخم المنتجات الغربية أعلن تخليه عنها ومقاطعته لكل ما هو ملطخ بدماء أطفال هم إخوته في العروبة التي حسب نفسه يوما لا ينتمي لها بل ويشعر بالخزي لأنه محسوب عليها. تحول من الأنانية والفردية والانعزالية إلى التفكير في الغير والتعاطف مع أطفال وأمهات لم يرهم يوما والسعي لإثبات حق مسلوب وقضية عظمى لم يهتم بها يوما.
هل انقلب السحر على الساحر؟ هل ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إفرازجيل واعٍ يعرف كيف يفكر وكيف يستنتج وكيف يتواصل وكيف يكون حر الإرادة؟! لقد سمع هذا الجيل الكثير عن القضية وعن المجازر السابقة كصابرا وشاتيلا ودير ياسين والانفاضات المتتالية من أجل الحرية والكرامة لكن لم تكن الأمور موثقة بالصوت والصورة كما هو الحال الآن. لقد رأى بأم عينه صمود وصبر وإيمان شعب يقطع إلى أشلاء يوميا ويتلقى أنباء الفقد بصبر واحتساب أذهله. لقد أثبتت المجازر ازدواجية معايير الغرب الذي أحبوه يوما وفضلوه على أصولهم وتقاليدهم فكانت الصدمة وكان النفور. مثلهم العليا التي اتخذوها يوما من المغنيين والمشاهير والمفكرين انهارت عندما وجدوهم يؤيدون الظلم ويفرحون لسكب الدماء البريئة. تحولت بوصلتهم تجاه بلادهم. قرروا لأول مرة استبدال ما يأكلونه ويشربونه ويلبسونه بمنتجاتهم الوطنية. قرروا البحث عن هويتهم العربيهم والبحث عن تاريخهم المشترك. أصبحوا صوت الحق في كل الوسائل التي استخدموها يوما للإلهاء فنجحوا في إيصال الرسالة بلغة الغرب التي يتقنونها.
هذه الغمة التي تتعرض لها الأمة العربية ليست الأولى ولا أعتقد أنها ستكون الأخيرة لكن ما يبث فينا الأمل هو هذا الجيل الذي فاجأنا جميعا بقدراته ووعيه. كم من أب وأم دخل في سجالات مع أبنائه عن ضرورة الانتباه لمخططات الغرب في تغلريب وطمس هويتنا واتهم الأبناء الأهل بالرجعية والتخلف وتحجر الأفكار. كم من شاب وفتاة رأى في الإلحاد حرية وانطلاقا وتقدما فأتت كلمة(الحمدلله) عفوية صادقة من فم فتاة فلسطينية لتزلزل أفكارهما بما يجهلانه من حقيقة مفهوم اليقين والثبات! ما حدث ويحدث في أرض فلسطين المباركة هو مأساة بكل المقاييس لكنه مبشر رغم كل شيء بأن ما حسبناه شر لنا هو خير لنا وهو فرصة لتصحيح مسارات كثيرة في حياتنا وضبط بوصلة اضطربت لسنوات طويلة ورب غمة أحيا أمة!
التعليقات