طرحت السينما الإسرائيلية مؤخرًا فيلما من صنف السيرة الذاتية بعنوان "جولدا golda" ويدور باختصار شديد حول السيرة الذاتية لرئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير والملقبة بالمرأة الحديدية في المجتمع اليهودي، وتختص مدة الفيلم التي تصل إلى مئة دقيقة بالقرارات التي اتخذتها جولدا إبان حرب السادس من أكتوبر، أو يوم الغفران كما يطلقون عليها، الفيلم من تأليف نيكولاس مارتن وإخراج جاي ناتيف والبطولة هيلين ميرين والتي تجسد شخصية بطلة العمل "جولدا".
العمل يعتمد في الأساس على سيناريو دقيق للغاية، غير مُكلف على الإطلاق، كعادتهم، لأنه يعتمد على مجموعة تتحرك داخل أماكن مغلقة، وكأننا أمام ست كوم، لم نشاهد طوال مائة دقيقة تصوير خارجي إلا مشهد دخول جولدا إلى قاعة المحاكمة في البداية، ومشاهد قليلة للغاية تتأمل فيها جولدا الفضاء من فوق سطح البناية التي تدور فيها الأحداث، ولا تدخل اللقطات الأرشيفية في ذلك، لكن بالرغم من هذا نجد حالة من الإيهام فريدة من نوعها، تأخذك إلى ساحة المعركة بشكل مستمر، ينقلك المؤلف والمخرج عبر المؤثرات الصوتية الموحية باشتعال المعركة إلى قلب المعركة وهذه جزئية فنية تُحسب لصالح العمل. يضاف إلى ذلك دقة التفاصيل الخاصة بحياة جولدا الخاصة ومعيشتها واستقبالها لمجلس الحرب في منزلها وتقديم كعكة لهم، وبعد مناقشة سريعة واتخاذ قرار مصيري بهجوم شارون، تستوقفه وحيدًا بعد رحيلهم وتتنبأ له بأنه سيكون رئيس وزراء، وحينما تلتفت مبتعدة يمد شارون يده ليأخذ قطعة من الكعكة قبل رحيله، وأيضًا استقبالها لـ هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا في منزلها وتقدم له الحساء الخاص الذي يرفضه في البداية قبل أن يتذوقه أمام إصرارها، متخوفًا أو متشككًا. وزيادة أعداد القتلى في المشرحة التي تمر عبرها جولدا حين دخولها إلى المستشفى لتلقي جرعة العلاج حيث إنها تعاني مرض السرطان.
هذا من حيث الشكل، أما عن المضمون يقدم الفيلم وجهة نظر مغايرة للحقائق والتاريخ وإن كانت ترتدي ثوب الحقيقة كعادة اليهود، فهم يمتلكون قدرات خاصة في لوي عنق الحقائق وتثويبها بأثواب أخرى، وفى هذا الفيلم يبحثون عن نقل الانتصار المصري الساحق في حرب أكتوبر 1973 من كونه انتصار مصري عربي بلا مراء إلى انتصار يهودي، لم يقدم العمل صراع اليهود من أجل الأرض وإنما ينتقل، عبر جولدا مائير، إلى صراع من أج الاعتراف بكلمة "إسرائيل"، فكانت تسعي بكل ما تملك من قوة مع كيسنجر، وزير خارجية أمريكا، يهودي يدعم شعبه، بأن تُوقف انتصار جيشها الوشيك وتقبل بوقف إطلاق النار مقابل أن يقول الرئيس السادات بأنه يقبل وقف إطلاق النار مع دولة إسرائيل..!! والحقيقة أنه انتصار بحث عنه ووضعته في مكانة عليا كي تخفي هزيمتها وهزيمة جيشها الحقيقية أمام الضربة الأولى من الطيران المصري وعبور القوات المصرية إلى سيناء.
وياله من أمر عجيب ألا يقدم الفيلم عشرات، بل مئات من جوانب الهزيمة للجيش الإسرائيلي، إنما يسعى بشكل مستمر إلى القفز عليها والانطلاق إلى حادث الثغرة وانهم بصدد انتصار عظيم ثم إذا بهم يقبلون مغادرة ما حصلوا عليه غرب القناة ناهيك عن مغادرتهم سيناء كلها، ثم يشربون نخب الانتصار إذ أعلن السادات قبوله وقف إطلاق النار مع دولة إسرائيل..!!
فماذا عن جيش إسرائيل الذي لا يقهر وهو يعاني الضربات الموجعة أمام الجنود المصرية وهى تعبر القناة وتسير في وثبات متتالية عشرات الكيلومترات في عمق سيناء؟!
ماذا عن الملايين التي أنفقها اليهود في تجهيزات أنابيب النابالم المحرم دوليًا وقد أبطل جبروته الجندي المصري؟! وتعد خطوة إبطال هذا السلاح وحدها انتصارًا في حد ذاته إذ كانت هذه الأنابيب، وحدها، كفيلة بإحراق جنود الجيش المصري وإنهاء الحرب، حيث تبلغ حرارتها إن اشتعلت إلى 700 درجة مئوية..!!
ماذا عن خط بارليف الأسطورة (على طول القناة بارتفاع 20 متر و22 نقطة عسكرية حصينة) وقد كلف اليهود 500 مليون دولاد حينها ، ولم يذكر الفيلم كلمة عن انهيار أسطورتهم أمام الجندي المصري؟!
ماذا عن النقط الحصينة التي كانت لا تقهر حقيقة لبنائها في أماكن مرتفعة وتسليحها بكل ما يلزم من صواريخ وأسلحة ودبابات وإحاطتها بأسلاك شائكة وحقول ألغام؟!
تخطوا كل هذا وتعلقوا بما حدث على يد شارون في "الثغرة"، ولم يكن لينجح فيها لولا استخدامه في البداية عدد من الدبابات المصرية التي احتفظوا بها منذ 67 ليمروا بها وكأنها دبابات مصرية ويعبرون ثم ينقبلوا ضد الجندي المصري في اللحظة التي يوشك أن يُدرك فيها الخدعة، ويؤكدون من خلال الفيلم أن هذه الثغرة هي الانتصار وبداية تحطيم الجيش المصري، ولم يعلموا أن مصر كلها كانت تنتظر الإعلان الحقيقي لما يحدث ليتحول الشعب المصري كله إلى جيش يتصدى لهم لكن الأبطال كانوا يحققون انتصارات حقيقية في كل مكان.
يعلم اليهود تأثير الدراما عالميًا لذا تراهم قدموا للعالم قضيتهم مع النازية عبر السينما العالمية، وها هم اليوم يقدمون، عدة رسائل من خلال فيلم جولدا بأنهم حققوا انتصارًا عظيمًا بإجبارهم السادات على الاعتراف بدولة إسرائيل، ورسالة أخرى أنهم شعب يُقتل ويؤسر أولاده، حينما يبكون عبر التواصل الصوتي من أنهم يتعرضون للضرب والقذف، أو حينما تمر جولدا عبر المشرحة وتتأمل جثث الموتى في تزايد، أو حينما يكون همها استرداد الأسرى وهى تشعر بالأسى وتبكي من أجلهم جميعًا، هذه هي الرسالة التي يريد صُناع الفيلم تصديرها للعالم، الانتصار المصري هو انتصار بطعم الهزيمة، أما هزيمتهم فكانت بطعم الانتصار، وثانيًا هم يتعرضون لوحشية العرب حينما تؤكد في جملة عابرة أن حافظ الأسد يقتل جنودها بوحشية ويعذب الأسرى ويقتلع أظفارهم..!! وبالطبع لم يتعرض الفيلم، وكأنها بديهيات، إلى أن اليهود هم مَن احتلوا "سيناء" الأرض المصرية، وقتلوا جنود مصر على أرض مصر في حرب قذرة في الخامس من يونيو 1967، ولم يذكر الفيلم أنهم كانوا سببًا في تهجير 250 ألف مصري من بيوتهم ومن حياتهم قاطبة من مدن القناة الثلاث بعد الضرب الموجهة ضد مواطنين عُزل في جريمة وحشية يجب وضعها أمام القضاء الدولي ومعاقبة مرتكبوها وتعويض آلاف الضحايا عن تشريدهم وإخراجهم من بيوتهم ليعانوا مشكلات الإسكان في 14 محافظة أخرى نُقلوا إليها قسرًا، فكيف عاشوا وكيف اندمجوا؟! وأين هم من أعمالهم وتعليمهم؟!
بالطبع لم يقدم فيلم جولدا الصورة من كل أو حتى معظم الزوايا، إنما قدمها من زاوية واحدة فقط وهى محاولة نزع مرارة الهزيمة واستبدالها بلحظة انتصار، وفى الوقت نفسه بث بعض السموم داخل روح الجندي المصري بأنه ليس أسطورة بانتصاره على أسطورتهم في 73 لأنهم هم الذين قبلوا وقف إطلاق النار بشروط وإلا كان الانتصار حليفهم.
ومن وجهة نظر محايدة أقول بإنهم يبحثون عن صالحهم الخاص بأي وسيلة كانت، وهم يرون أن هذا حقهم، وينجحون فيه، ولا ألومهم فهم أحرار، لكن يجب علينا أن نفطن لكيدهم، ألا ننجرف خلف زعمهم، أن نشاهد، ونحلل، ونرصد، ونعي، وندرك، فلا نتأثر، ولا تهتز شعرة واحدة بداخلنا، وأن نفرح ونسعد بانتصارات أكتوبر المجيدة لنها بحق تستحق ذلك لما كان فيها من بطولات بعدد جنودنا الأبطال.
التعليقات