في 30 سبتمبر من كل عام نحتفل بالمترجم. وقد تم اختيار هذا اليوم تحديدا لأنه يوافق عيد القديس جيروم أول من ترجم الإنجيل ولقب بقديس المترجمين. والاهتمام بنقل معرفة ما من لغة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر ليست بحدث جديد ولا مهمة فرضتها علينا حياتنا المعاصرة فهي قديمة قدم التواصل البشري الأول. بدأت بتبادل بسيط بين البشر جلب لهم المنفعة. ومنذ ذاك اليوم الذي قرر فيه إنسان تميز عن غيره بتعدد الثقافات واللغات أن يكون وسيطا بين طرف وآخر لينقل حديثا أو معلومة أو مساعدة بدأت الترجمة كوسيلة تربط بين البشر وتقرب بعيدهم وتذيب الجليد العالق بين مكانين تحجز بينهما لغة وتحجب الرؤية وتعيق التقارب. يتكلم البشر ما يقرب من سبعة آلاف لغة بحسب إحصاءات اليونسكو فتخيلوا معي ماذا سيكون الحال إن بقي كل شعب معزولا عن جيرانه؟!
يمكن لكل إنسان يجيد التحدث بلغتين أن يكون وسيطا بين لغته الأم وبين اللغة الأخرى التي يتقنها. في نطاق حياته اليومية البسيطة يمكنه مساعدة شخص في إيجاد عنوان أو قراءة لافتة في الطريق أو الحصول على خدمة أساسية في المطار أو المستشفى أو حتى مكتب البريد. بكلمات سهلة وعبارات مقتضبة يترجم وينقل المعلومة المباشرة دون مواربة. لكن تبادل المعلومات بين البشر يتعدى حدود الخدمات البسيطة المباشرة وتتطلب الحياة والتبادل الثقافي والعلمي بين الدول أن يصبح دور المترجم أكثر تعقيدا وتوسعا. لكن من هو المترجم؟ وهل له من الصفات ما يميزه عن غيره؟ وهل هي مهنة لها حرفيتها ومهاراتها أم مجرد إلمام بلغتين أو أكثر؟ أن تكون مترجما مهنة تختارها وتتقنها تماما كأن تكون طبيبا أو مهندسا أو معلما أو قاضيا أو نجارا أو خياطا. الترجمة لها أدوات ومهارات فطرية وأخرى مكتسبة. هناك من يحب الآخر بفطرته ولديه رغبة ملحة في التواصل مع البشر والنقل عنهم والتعلم منهم. هذا الشخص اجتماعي يحب التعرف على كل ما هو جديد ولا يكتفي بمحيطه الضيق ولا يجد غضاضة في التعلم المستمر والبحث خارج حدود عالمه وفي رأيي هذه مكونات أولية تصقل مهارات مترجم فريد من نوعه. لأن تكون مترجما فيجب عليك إتقان لغتك الأم واللغة التي تترجم عنها أو إليها. المترجم الحق دائم التعلم لا يجد غضاضة في قول(لا أعلم) ولا يعتبر هذا نقصا من شأنه ولا من قدراته بل أسمى صفاته ولا ينتقص من شأنه أن يقول لا أعلم يقينا أو لا أجد مرادفا مناسبا أو يطلب بعض الوقت للبحث والدراسة. الكلمة أمانة سواء كانت أصلية أم مترجمة و بحور اللغة عميقة لا يمكن أن تملك زمامها دون قراءة مستمرة وتواصل دءوب مع أهلها باختلاف مستوياتهم الثقافية وتعدد لهجاتهم. اللغة جزء لا يتجزأ من حضارة بلد بأكملها فالمترجم لا يدرس اللغة بمعزل عن حضارة شعبها وتقاليدهم وأدبهم وفنونهم ولهجاتهم. وتعد دراسة اللغة باستفاضة والقراءة المتنوعة والاحتكاك المباشر بأهلها والتعلم المستمر من المهارات الأساسية التي يمكن اكتسابها بصدق وعزيمة لا تفتر ورؤية واضحة للطريق.
لا تترجم نصا إن كنت لا تملك زمامه. تعدد مواضيع ومجالات الترجمة لا تعيب المترجم صاحب التخصص. اختر المجال الذي تحب العمل فيه وتملك مقوماته اللغوية والعلمية فلكل مفرداته وعباراته وتراكيبه. ولا تترجم نصا قبل قراءته أكثر من مرة. تأكد من أنك قادر على تحويله للّغة المرجوة بحرفية وجمال. يا حبذا لو قرأت عن المجال أولا لتلم بكل مفرداته وأساليبه ولتضع نفسك في حالة مزاجية تفاعلية مع النص وأدبياته أولا. لا تترجم عملا تملك عليه تحفظات أخلاقية أو سياسية أو دينية. فما يزعجك لا يعطيك الحق في لي عنق النص وتطويعه ليوافق أفكارك وأهواءك؛ إما أن تنقله كما هو أو تعتذر عن ترجمته. المترجم رسول لا رقيب. لا تقبل نصا لا تضمن أمانتك في نقله بمعنى إنك إن ارتأيت بالنص ما ترفضه فانسحب في هدوء دون تشويه أو تزييف. احفظ روح النص ولا تخذل الكاتب الأصلي بتغيير ما أراده في النص من ملامح سعادة أو شقاء؛ من صرامة أو فكاهة.
المعاجم والقواميس في اللغتين أدوات لا غنى عنها ولا تحط من قدرك أو تنقص من علمك ومعرفتك. المترجم الحق لا يشينه استشارة المعاجم المتخصصة ومراجعة أهل الذكر في التخصص الذي يعمل على نقله من لغة إلى أخرى. المعجم بوابة فهم ما استعصى واستخراج درر اللغة والتراكيب. وبقدر ما وفرت وسائل التكنولوجيا الحديثة كل المصادر اللغوية بكبسة زر بقدر ما ستظل للمعاجم والقواميس الورقية هيبتها وسعة صدرها لكل ما يحير المستخدم من إشكاليات لغوية.
الترجمة ليست نقل نص مصمت من لغة إلى أخرى بل الترجمة السليمة هي ما تكون انسيابية رقراقة يظن من يقرأها أنها كتبت بلغتها الأصلية وليست منقولة من لغة أخرى. وهذه السلاسة في النقل لا تتأتي إلا بالقراءة والاطلاع على نصوص أصلية ودراستها وتدوين تراكيبها وأمثلتها الشعبية ومأثوراتها. التواصل الدائم مع أهل اللغة وعرض الترجمة عليهم من محاسن العلاقات العامة الجيدة بين المترجم ودوائر ثقته. الترجمة الحرفية تشوه العمل والاستعانة بالترجمة الآلية وبرامجها في نظري كوجبات الطعام االسريعة والجاهزة؛ تسد الرمق وتكبح الجوع لكنها لا تسعد النفس ولا تمتع الروح. الترجمة فن ومهارة مجدولان بحب في نص بديع وليس مجموعة كلمات مصفوفة برتابة خاصة في الترجمات الأدبية كالروايات والشعر.
أن تكون مترجما اختيار خاص يلزمه الكثير من الحب والإخلاص. حبك للغات وللبشر الذين يتكلمونها هو أولى مقومات نجاحك والوقود الذي يدفعك للعمل والإتقان. الرغبة الصادقة في النقل وتبادل المعارف تدفعك دوما لاكتساب المهارات والتطلع للمزيد من العلم بلا كلل. الترجمة مهنة إنسانية يتسامى فيها صاحبها ويؤثر فيها الآخر عن نفسه. المترجم شخص لا تعرف الأنانية مكانها في حياته فهو لا يفكر في نفسه ولا في مكتسباته المادية أو الأدبية بقدر ما يفكر في الآخر والنفع العائد عليه في نهاية يومه ومقدار ما حصله من علم ومعرفة بما بذله من مجهود في سبيله. إن لم يخلص المترجم في عمله وهو يضع القاريء نصب عينيه كأولوية احتراما للغته وثقافته وتقديرا للمنتج النهائي فلن تستمر مسيرته ولن يترك أثرا. المترجم المحترف كالصائغ الماهر يعرف الغث من الثمين ويصقله ليخرج تحفة فنية عالية الذوق والقيمة.
التعليقات