من المقولات الصادمة التى تكررت على سمعي طوال حياتي (اتق شر من أحسنت إليه)، كنت أسمعها فأهز رأسي رافضة غير مصدقة لمعناها، هل هي مبالغة من قائلها أم نظرية مؤامرة أم عبارة محبطة من شأنها نشر التشكيك والتخوين بدلا من التعاون على البر وظن الخير بالآخرين من حولنا، هل هي تحذير في غير محله يمنع الناس من التواصي بالبر واعتماد أفعال الخير فيما بينهم؟ هل هي مقولة من عمل الشيطان؟ كنت أسمعها تتردد كثيرا ويتناقلها الناس بحسرة أحيانا بعد فوات الأوان وبنبرة تحذيرية أحيانا أخرى قبل أن تقع الفأس في الرأس.
كنت أتعحب: هذه مبالغة لا تجوز! كيف لمن أحسنت إليه أن يحمل لي شرا؟! لا يمكن لشخص تلقى مودة وحبا وإكراما أن يجازي بغيرهم. لم يكن لعقلي أن يستوعب كيف تهون العشرة على أحدهم فيشرع سلاحه لمن مسح يوما دمعته وينثر الشوك في طريق من حمله على كتفيه عندما عجزت الأرض عن حمله، عندما تحسن إلى شخص فأنت على علاقة قوية به وبينكما أواصر محبة من المفترض أنها تتجاوز كل الصعاب وكل النقائص، من أحسنت إليه بالحب والاهتمام لا يمكن إلا أن يبادلك بالإحسان إحسانا وبالرعاية والاهتمام مودة ومحبة، لابد أن لك مكانة في قلبه تتجاوز كل شيء.
ومرت على السنون وكبرت وتناوبت على الأحداث تترى ومعها نمت خبرتي وازدادت، وعادت العبارة التي كنت أستنكرها لتضيء عقلي في موضع من بعد موضع لتذكرني بقصور تفكيري وببعد نظر قائلها وحكمته الخالدة.
نعم! من أحسنت إليه يمكن أن يحمل لك شرا وأن يرد لك معروفك بالقسوة والتجاهل والشر كثر أم قل.
من أحسنت إليه يمكن أن يتجاهل فرحك ويسر لضيقك. يرد لك الرعاية بالإهمال والخير بالضر، لا يحمل لك معروفا ولا تعني له شيئا فمنذ أن حصل منك على مراده انتهت مهمتك في حياته، لا تستحق في نظره كلمة شكر أو تقدير أو حتى رد فعل ممتن يتذكر ضوءا حملته له في ظلمة خانقة أو عونا قدمته له وهو منبطح أرضا لا يستطيع الوقوف.
تتهاوى المثالية مع مرور الزمان ويتكشف الوجه القبيح لكثير من البشر. هناك الغث والسمين. تصدمنا تصرفاتهم ونشعر بغصة في الحلق عندنا يخذلوننا ويتجاهلوننا كأننا لم نكن يوما على وفاق أو كأننا لم نضعهم على رأس أولوياتنا مهما كلفنا الأمر من مشقة، يبخلون بكلمة تهنئة يشاركونك بها فرحتك أو مواساة يشدون بها من أزرك، يتجاهلون وجودك تماما كأنك غير مرئي بل غير موجود. لا تستحق في نظرهم مجرد الالتفات، تتعجب ولا تصدق، تلوم نفسك وتفكر ما فعلت ليكون هذا جزاؤك.
تؤكد لك ذكرياتك أنك لم تقدم إلا خيرا خالصا ولم تفعل إلا الإحسان ولم تملك غير المحبة والصدق. تترقرق الدموع في الأعين وتزم الشفاه حزنا وحسرة على ما نلقاه منهم، لا تحزن يا صديقي فالعيب ليس عيبك والنقيصة لم تصدر منك، وتحاوطنا مرة أخرى مقولة حكيمة قالها الأجداد: (إن أنت أكرمت الكريم ملكته، وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا).
التعليقات