تلقى التطورات التكنولوجية والاقتصادية والثقافية المتلاحقة لوسائل الإعلام والاتصال والتواصل بمختلف اشكاله، بظلال قاتمة على صحابة الجلالة الصحافة، حيث يتصاعد النقاش حول مستقبل المهنة ليس فقط في الأوساط الصحفية وانما أيضا على المستوى الاكاديمي، في ظل الانتقال لعالم جديد، لا يزال تتشكل أبعاده، وتتباين الرؤي حول ملامحه، وطبيعة الفاعلين فيه، ونوعية المسارات التي يجب اتباعها، ونماذج الأعمال التي ينبغي أن تنظم آلياته، ودور المنصات التكنولوجية الكبرى في تشكيله.
يحدث هذا في وقت تكتسي فيه الرؤى المطروحة حول صناعة الصحافة الورقية ومستقبلها بألوان، متشائمة، بعضها ينعى مستقبل مهنة قَادت دول، وعلمت أَمم، وربتْ أَجْيال. وآخرون يسلمون بالأمر الواقع، وإن ما كان، قد يختفي، وقد لا نحتاج إليه بشكله القديم. وفريق ثالث لا يزال يصارع، ليتلمس خيطاً، أو نموذجاً أو مبادرة تريحه أو تحلم معه بأن ثمة آملاً قادمًا، وأن الصحافة مهنة ولدت لتبقى، وأن أي وسيلة جديدة لم تنجح في القضاء على سابقتها.
في خضم هذه الرؤى المتباينة تثور أسئلة عديدة عن مهنة الصحافة بدءا من بديهيات العمل الصحفي إلى المآلات في عالم رقمي، منها: هل هذه المهنة حكرًا على الصحافة الورقية؟ وعلى العاملين بها؟ أليس ما يقوم به الصحفيون عبر الانترنت هو عين الصحافة؟ وماذا عن المنصات التكنولوجية الكبرى ووسائل التواصل الاجتماعي، هل هي عدو لصناعة الصحافة ومدمر لاقتصاداتها، أم أنها قد تصبح طوق النجاة الذي يأخذ بالصحافة لبر الأمان؟ وهل فعلاً التعاون مع هذه المنصات التكنولوجية يبقي الصحافة على قيد الحياة،أم يُسلم مصيرها لقوى تطوعها لخدمة مصالحها التجارية؟ وإلي أي مدى يمكن أن تساعد هذه المنصات، الصحافة في التخلص من أزماتها؟ وهل الصحفيون أنفسهم سيبقون؟ أم سيتم الاستغناء عنهم بالروبوتات والتقنيات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي؟
هذه التساؤلات التي تعبر عن قلق عام على المهنة طرحتها دراسة جديدة للدكتور السيد بخيت أستاذ الإعلام والصحافة بجامعي القاهرة وزايد، تصدر قريبا في كتاب بعنوان (رقمنة الصحافة الورقية) والدكتور بخيت العاشق لصحابة الجلالة والمهتم بقضاياها عبر العديد من البحوث والمؤلفات، يطرح في هذا الكتاب الجديد أفكاراً ويدرس واقعاً، ويستطلع آراءً، ويستعرض أطروحات، ترمى لمعرفة هل ثمة نماذج أعمال يمكن أن تتبناه المؤسسات الصحفية للخروج من أزمتها، سواء المادية أو الرمزية؟، وهل يمكن أن تتعايش الصحافة الورقية مع البيئة الإليكترونية؟ وإلى أي مدى يمكن أن يدعم الجمهور الصحافة لإبقائها على قيد الحياة؟ وهل القارئ الذي كان يدفع لشراء صحيفة ، يمكن إقناعه بأن يدفع مقابل ما يقرأه " أون لاين"؟
ويجتهد المؤلف في فتح باب جديد للنقاش حول وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات التكنولوجية الرقمية الكبرى مثل جوجل وفيسبوك، وإلى أي مدى يمكن أن تُعين أو تهدد مستقبل الصحافة؟ وهل هي فقط منصات لنقل المعلومات أم ناشرين لها؟ وهل ما أعلنوا عنه من مبادرات لمساعدة الصحافة، بداية إنقاذ أم بداية لهيمنة؟ ولمن ستكون اليد الطولي في التشريع للعلاقات المنظمة بين الصحافة وهذه المنصات؟
لا شك ان الإجابة على الأسئلة السابقة ليست سهلة، ولا يمكن ان تقدم لنا دراسة او كتاب واحد قولا قاطعا فيها ، وإنما ستظل محور خلاف وجدل، ولكن الكتاب يدير حورا ثريا حول هذه القضية، يمكن أن يُقرب المسافات، ويُنير الطريق لصناعة الصحافة التي ندين لها جميعًا بالكثير. وفي هذا الصدد، يرصد الكتاب رؤيتين متناقضتين حول مستقبل الصحافة تتصدران النقاش، ترى الرؤية الأولى أن مستقبل الصحافة الورقية في خطر، وإن مصيرها للزوال، ليس فقط لانخفاض معدلات توزيعها، بل لأن نموذجها الاقتصادي القائم على عائدات الإعلانات لم يعد فعالاً، وبينما يُقر الفريق الأخر بأن الصحافة تتعرض للعديد من الأزمات، لكنه يرى أن ثمة إرهاصات تشير لعودة نمو صناعة الصحافة، وأن ما يحدث الآن، ليس إلا مرحلة عابرة في عمر صناعة عتيدة، حتى نستقر على شكل إعلامي محدد.
كما يناقش العديد من الموضوعات المتعلقة بتحديات هذه الصناعة المهمة ومستقبلها والحلول المطروحة للخروج من أذمتها والتي قد تكمن بشكل أساسي في مدى تجاوب الصحافة المطبوعة مع التطورات الرقمية.
التعليقات