تجديد الفكر والخطاب الإسلامي ضرورة حضارية، وعملية مستمرة لا تعنى فقط إعمال العقل في المشكلات المعاصرة لاستنباط الأحكام الشرعية المناسبة والحلول الملائمة وإنما تعني أيضا إعادة الدين، إلى النقاء الذى كان عليه يوم نشأته من حيث الأصالة الفكرية لأركانه وثوابته، أى تجديد الإيمان به والالتزام بتعاليمه الصحيحة بعيداً عما قد يعتريها من شوائب، ومن تراكمات الركود الحضاري الذي ران على قلوب الأمة قرون عديدة، ولكن للأسف شهدت السنوات الأخيرة خللا منهجيا في الدعوة الى تجديد الخطاب الديني، تراوح بين التضييق في حدود هذا التجديد من ناحية، وفتح مجالاته بلا حدود من ناحية أخرى، في حين أن لهذا التجديد ضوابط واتجاهات ومدارس، تجدر الإشارة إليها قبل الحديث عن التجديد الذي تنشده أمتنا اليوم.
من أبرز هذه الضوابط ، أولا: أن لدينا ثوابت لا تقبل التجديد، وإنما يكمن تجديدها في الحفاظ على نقائها وأصالتها، فالكعبة لا تُجدد، بجلب أحجار لها من أوروبا، فهي البيت العتيق، اي أن ميزتها في قدمها. ومن ثم فإن التجديد لا يعني المساس بثوابت العقيدة والعبادات ونصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة. والظنيات قابلة للتجديد وللاجتهاد، أما القطعيات فلامجال لتجديدها. لذا فإن المناطق المغلقة أمام التجديد محدودة، بينما المساحة القابلة للتجديد هي الأرحب.
أما الضابط الثاني فهو أن التجديد لابد أن يقع بوسائله الشرعية، وأن يتم من داخل الإسلام وبأدواته الخاصة، وليس من خلال لي عنق النص أو تجاوزه بحجة التأويل. ويتعلق الضابط الثالث بمن يتولى التجديد، إذ لا بد أن تتوافر لديه شروط الاجتهاد ومؤهلات التجديد. وقد يقوم بالتجديد فرد، كالإمام الشافعي، أو الإمام الغزالى، أو مؤسسة مثل مجمع البحوث الإسلامية، الذي له ان يستعين بمن يتطلبه موضوع التجديد من تخصصات علمية مختلفة. والتجديد قد يكون فكريًّا، وإيمانيًّا، وقد يكون عمليًّا فعندما رصد العلماء سلسلة المجددين على رأس كل قرن، ذكروا ان مجدد المائة الأولى "عمر بن عبد العزيز"، وقد كان تجديده عمليا في سياسة الحكم، فبعد أن اندثرت معالم الخلافة الراشدة وسُنن العدل، بدأ يرد الحقوق إلى أهلها، ويزيل المظالم، ويُعيد سُنن الراشدين.
ويمكن رصد ثلاثة اتجاهات رئيسية في تجديد الفكر الإسلامي المعاصر. الاتجاه الأول يتمسك بتفسيرات السلف لمصطلح التجديد، ويعتبر الخروج عليه نوعا من الابتداع والتحريف في الدين، ويكاد يقصر مفهوم"التجديد" على «الاجتهاد في مستجدات العصر» ، غير أن مستجدات العصر هنا ليست إلاّ مستحدثات فقهية، فتتقلص تبعاً لذلك إلى درجة ضيقة للغاية لا تفي بتفسير الواقع الموضوعي.
والاتجاه الثاني تتبناه شريحة واسعة من الكتّاب والمفكرين ويرتبط بالاجتهاد المفتوح، الذي يتجاوز الأطر المذهبية، والحدود الفقهية، فما دام أن الوقف عند النّص (تفسيراً وتأويلاً) شرط لاعتباره في دائرة الإسلام، فإن الاجتهاد لا يصبح له حدود إلاّ حدود النص نفسه.
أما الاتجاه الثالث فيعنى أساسا بإصلاح مناهج الفكر ويرى أن أزمة المسلمين تتعلق أساسا بما آلت إليه الحضارة الإسلامية، من فقدان السيطرة على الواقع وتوقفهم عن الإبداع الفكري والتقدم المادي، بينما تطورت العلاقات الإنسانية وتغيير منطق الحياة اليومية، في ظل تقدم متلاحق في المعرفة. كل ذلك جعل المدارس الفكرية الإسلامية المنبثقة عن جهود السلف، عاجزة - بوضعها الحالي - عن التحكم في هذا الواقع، أي أنها أصبحت مستنفدة تاريخياً، فالأزمة التي وجدت فيها المنهجية الإسلامية «التقليدية» سمحت للمتعلمين من أبناء المسلمين أن يستلبوا للغرب بسهولة، ويرى هذا الاتجاه ان الخروج من هذا المأزق يتطلب إعادة إصلاح مناهجنا الإسلامية وفلترة المعرفة الغربية من العقائد الكامنة والخفية خلفها، وجعلها منسجمة مع الإسلام، وهو ما أطلق عليه" إسلامية المعرفة".
وأفرزت هذه الاتجاهات مدارس عديدة لتجديد الفكر الإسلامي، من أهمها هي "مدرسة الوعي الحضاري" التي يعد مؤسسها الرئيسي المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون، وعمادها في العصر الحديث المفكر الإسلامي مالك بن نبي. وتعتمد هذه المدرسة على الاجتهاد الحضاري، والوسطية والتغيير السلمي وإغناء البعد الإنساني، ودعم الروح الوطنية، ومناهضة الطائفية والعنصرية على المستويين الفكري والعملي.(وللحديث بقية)
التعليقات