الخطاب الدينى المنشود «2»

الخطاب الدينى المنشود «2»

د. محمد يونس

فى إطار مناقشتنا قضية تجديد الخطاب الديني، طرحنا رؤية للخطاب المنشود، تتضمن التركيز على نقاط رئيسية، وذكرنا منها فى المقال السابق ثلاثا: (نبذ العنف بكل أشكاله. ودعم الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية، مع الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية. وترسيخ قيمة المواطنة) ونتناول اليوم النقطة الرابعة وهي: بناء وتشكيل المسلم المعاصر ليكون إنسانا فاعلا ومنتجا فى مجتمعه، مدركا لحقيقة الإسلام ومهمته فى الحياة وهى عبادة الله وتعمير الأرض. ولكن هذه المهمة تعتمد على آلية واعية تستهدف أساسا نفسية المسلم المعاصر.

يتضمن هذا البناء للمسلم المعاصر، إزالة الركام غير النافع ليحل محله البناء المفيد، وهذه العملية يجب أن تتم باستمرار للإنسان، فإذا كانت هناك عمليات هدم وبناء دائمة فى خلايا الجسم لضمان بقائه وصحته ونموه، فإن النفس البشرية أولى بذلك من الجسم، وهنا ينبغى أن يكون الخطاب الإسلامى واعيا بمعالم الخريطة النفسية والعقلية لقطاعات كبيرة من الجماهير المسلمة اليوم، والتى وصفها بعض مفكرى الأمة بـ«نفسية العبيد وعقلية القطيع».

ومن خلال هذه العملية البنائية يمكن للخطاب الإسلامى أن يؤسس لنفسية العزة، وعقلية الاختيار الحر المسئول، فى مقابل نفسية العبيد وعقلية القطيع. وهذه العملية ضرورية لإنقاذ المسلم المعاصر من الاستلاب الفكرى والثقافى الذى يحول الشعوب إلى مجرد زبائن للسلع الاستهلاكية ويجعل الناس أرقاما فى قائمة المستهلكين المستهدفين.

وهى ضرورية أيضا ليتمكن هذا الخطاب من الإقناع بمنظومة القيم التى تعلى من شأن الاستقلالية والمسئولية والإخلاص فى العمل والتفوق فى العلم والإتقان والتميز فى الأداء والتعايش مع الآخر وحسن الجوار وأدب الحوار أو الاختلاف، بما يسهم فى تشكيل العقل المسلم ليكون مدركا لرسالته ودوره متصالحا مع عصره. وهنا يمكن الاستفادة من مقاربة مهمة تتعلق بالبناء النفسى للمسلم المعاصر يعرضها د. محمد المهدى أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر، عبر آلية تعتمد على «التخلية ثم التحلية»، على النحو التالي:

أولا التخلية: وتشمل السلبيات والتراكمات التى نريد أن نخليها من aالتدين المرضى ويتجلى فى عدة مظاهر، أبرزها إعلاء قيمة اللفظ على حساب المعني. وتضخيم قيمة المظاهر الخارجية للدين على حساب المعنى الروحى العميق. والتعصب. وتعظيم ذات الشخص. والرغبة فى التسلط على الآخرين، والرفض العنيد للرأى الآخر، أو تحقير الذات وما يستتبع ذلك من الميل إلى السلبية والهروب من مواجهة الواقع.

ولهذا التدين المرضى أشكال عديدة منها:«التطرف عن الدين»، و«التدين المصلحي»: حيث يلتزم الشخص بمظاهر الدين الخارجية للوصول إلى تحقيق أهداف شخصية، والتدين (الهروبي) ويحدث لدى الذين يشعرون بالعجز فى مواجهة متطلبات الواقع فيلجأون إلى الدين احتماء من المواجهة، فتجد مثلا من يهمل دراسته أو عمله أو مسئولياته ويتفرغ لممارسة بعض الشعائر الدينية التى لا تتطلب جهدا أو مشقة.

> العلل الفكرية مثل التعميم والاختزال والتهويل والتهوين.

> التشبث بشوائب التراث المتراكمة، والتى قد تكتسب قدسية لا تستحقها.

> العنصرية التى تناقض حقيقة الدين.

ثانيا التحليـــة: وتمثل الجانب الآخر من عملية البناء النفسي، وهى الجانب الإيجابى فى البناء الذى تحدث عنها د. محمد مهدي، لافتا إلى أن «التحلية» تبدأ بتحديد الغاية. وهى السعي: نحو الله ، فالمسلم لا يبغى علوا فى الأرض ولا فسادا وليس هدفه النهائى تضخيم ذاته، ولا السيطرة على الآخرين وإذلالهم أو استنزاف ثرواتهم، وإنما هدفه رضا الله تعالى من خلال عبادته وعمرانه للأرض وخلافته فيها: «َ.. هو أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..» (هود:61) «وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» (الذاريات: 56).. ثم يبنى على ذلك منهجية فى التفكير تحترم القوانين الكونية (الأسباب) وفى نفس الوقت تؤمن بصانع هذه القوانين (مسبب الأسباب). ومفتاح الشخصية فى ذلك كله هو حب الله. وبالاستعانة بمثل هذا المنهج يمكن للخطاب الإسلامى ان يقدم مقاربات ومعالجات ناجعة لحالة الإرباك التى يعيشها المسلم المعاصر والتى قد تتجسد فى اختلال فى الأولويات وتناقض الالتزام الدينى مع السلوك الفعلي، والانفصام بين العقيدة والعبادة من ناحية والأخلاق والمعاملات من ناحية أخري، والاستغراق فى الشكليات، وإغفال الأمور الجوهرية، والخصام المفتعل بين الدين والذوق والفن والجمال.

التعليقات