قراءة في المجموعة القصصية "الأرض المحصورة" للقاص الليبي عمر الككلي
لم تعد ثنائية الكاتب والنص هي فقط ما يعنى به النقد بل أُضيف المتلقي كعنصر أساسي في تشكيل ثنائية جديدة الا وهي القارئ والنص.
نظرية التلقي..
من أهم نظريات مابعد الحداثة وقد أعادت الاعتبار للمتلقي كشريك أساسي في العملية الإبداعية بعدما أغفلته المناهج السياقية والنسقية.
وقد انطلقت من جامعة كونستانس بألمانيا على يد اثنين من الأساتذة هما "هانز ياوس" و"فولفجان ايزر".
"هانز ياوس" الذي تناول مصطلحي أفق التوقعات والمسافة الجمالية لتحديد القيمة الجمالية للنص و"فولفجان إيزر" الذي اهتم بملء الفجوات والقارئ الضمني
وهو ما وجدته جليا في العمل الذي بين أيدينا اليوم "الأرض المحصورة " للأديب الليبي الأستاذ عمر الككلي.
لا أزعم أن نظريةَ التلقي كانت في ذهنه وهو يكتب قصصه ولكن ما أبدعه جعلتها تتداعى الى ذهني دون أن أطلبها.
قد كان من الممكن دراسة النص من خلال المناهج السياقية الخارجية الحديثة - الاجتماعية والنفسية والتاريخية والانثروبولوجية..- فكلَهاٌ متحققةٌ في العمل بوضوح وجلاء.
أو أفسرها من وجهة نظر معاصرة حداثية نسقية منشغلة بما يستحقه النص الغني بلغته الفخمة وجماليات مفرداته وتراكيبه المبهرة
لكن سيكون ذلك أيضا إجحافا للنص وتهميشا لمكامن قوته التي تتمثل في كل ما سبق ذكره وغيره مما سنعرض له لاحقا.
يقول الأستاذ عمر الككلي في أحد مقالاته المنشورة:
"دائما أقول أنني أعتبر نفسي محظوظا لأن مقدارا كبيرا من قرءاتي الأولى في القصة تصادَف أن كان في القصة الليبية على خلاف ما يعتقد اخواننا المثقفون العرب (ولا يصدقونه) وكثير من الليبيين، تنتمي، في معظمها، ومنذ انطلاقها الناضج بداية خمسينيات القرن الماضي، إلى أرقى ما يكتب في المنطقة العربية. القصاصون الليبيون هم الذين شكلوا القسم الأساسي والأكبر، من رؤيتي الجمالية القصصية، وأعطوا دفعا لاجتهاداتي فيها." انتهى كلامه
قد يتسرب الى ذهن من يقرأ عبارته هذه أنه تحيزٌ واضح وتفاخر مبالغ فيه من الكاتبِ، لكن عندما تبدأ في الاطلاع على الأسطر الأولى من العمل المكون من ثلاث وعشرين قصة، تعرف أنه كان صادقا لدرجة الإنصاف.
فلن تنكر عليه عندما تقرأ ما يصف به نفسه في عمله الذي بين أيدينا ولن تتهمه بالغرور
بل ستؤيده وتضيف...، أنه واثقٌ ويعرف قدر نفسه.حين يقول
في قصة تصفية حساب ٣٥
"أنا أيضا لم أكن شخصيةً عادية ينبغي أن تتذكري وإلا فما الذي جذبك إليّ"
في قصة عمارة الكرسي
"وبما أنني اعتبر نفسي شخصا بالغ النباهة.."
وفي قصة دفاعا عن الحمام
" فأنا لا أقل عن جيمس ثربر هذا " يقصد جيمس ثربر القصاص الامريكي المرموق" في فيض الدعابة العذبة وجلاء الموهبة وحدة الذهن وكون لم يخطر لمطبوعة ليبية أن تقول عني: عمر ابو القاسم الككلي هو عمر ابو القاسم الككلي فهذا لا ينقص من قيمتي ولا يجردني من موهبتي
وفي قصة فضائل
"كنت أقل إسنانا من الرجل واكثر وسامة بكل تأكيد."
الكاتب هنا يعدو بك الى حافة جبل شاهق وقبل السقوط يعود ويجذبك للخلف. يدفعك في الهواء ثم يلتقطك. يضعك على رأس طريق يتفرع لعدة طرق على كل منها عنوان تاركا المجال لمخيلتك لتقرر أيها تسلك فتكون المفاجأة التي تصدمك لاختلاف أفق توقعاتك المسبق عن أفق النص فتُكَون أنت كقارئ أفقا دراميا جديدا، بل عددا لا نهائيا من التأويلات تختلف باختلاف المتلقي،
مركزا ( الكاتب) في ما يكتب على قارئ ضمني مضمر اختاره بعناية. تخيله ووضعه نصب عينيه أثناء عملية الكتابة؛ يمده بالتوجيهات الداخلية التي تجعل تلقيه للنص ممكنا، ويضع له مناطق غموض وفراغات؛عليه ان يملأها بما فهمه من النص.
فينتقل به من مرتبة الإدراك إلى مرتبة الاستذهان؛ ليتخطى مستوى الاستحسان والاستهجان إلى مستوى أعلى من القدرة على التأويل واكتشاف الدلالات والتفسيرات المختلفة للنص،
فتنشأ بهذا مسافةُ جمالية رائقة تجعل النصَّ أكثر إبداعا وإمتاعا وتجعل من القارئ شريكا في العملية الإبداعية، بل تجعله مبدعا آخر للنص.
عادة ما ينشىء حوارا متخيلا مع المتلقي؛ تلاحظة في جملة اعتراضية يضعها بين مزدوجين
كما في قصة أم المصابيح.. الأحاديث المُبهرة بإيماءات وتلميحات يعتقدن أنها تخفى عليه ( لعل معظمها من توهمه)
وقصة القرار الرطب..
المكان غير آمن (ولم يتوفر لنا إبدا مكان آمن)
اللغة بمفرداتها وتراكيبها بل ولهجتها المحلية أحيانا تضفي بعدا دراميا مقصودا لتحقيقِ هدف يوصلك لمرحلة التفاعل والانبهار.
العناوينُ الداخلية واختيارُ عنوان العملِ. بل وترتيب القصص وتداخل الاجناس الأدبية المنظومة والمسرودة، له أهدافه غير المعلنة التي لن تحاولَ اكتشافها بل ستتسلل الى ذهنك وتنتشر في أبعاد مخيلتك تأخذك الى آفاق لم تقربها إلا اللحظة.
الوصف الذي يتدرج من القمة الى السفح آملا في بلوغ المنتهى أو قانعا بالحد الادني؛ مذكرا دائما بوخز الواقع غير منفصل عنه بل مستمدا منه كل الأفكار التطورية وإن كانت خيالا لم يتحقق إلا في الحلم الذي يعد واقعا أخرَ موازيا قوة ووجودا كما في قصة تحقيق الحلم.
هو لن يدعك تقرأ وتسترسل وتندمج بالطرق المعهودة المتعارف عليها لكن سيبقيك يقظا طول الوقت لن تفارقَك الابتسامةُ المخضبةُ بالدموعِ والدهشةُ المستكينةُ خلفَ دثار المتعة.
يُتبع في الجزء الثاني..
التعليقات