تظن أن ثمة أحداث غدت فى طى ما فات، عهود مضت، أفنت معها سيل ذكريات وما فات قد مات، بينما أصبح كل شىء نصب عينيها حين ولجت المصعد وزوجها للوصول لطبيب العظام المنشود، لم تكن تحسب أو تعد لمصادفة محتومة، ها هو الماضى يتجسد فى صورة إنسان من جديد، رجل كبير أحدثت الأزمنة تعابيرها وتغيراتها على وجهه بكل دقة، خطوط حول العينين تنوعت ما بين الرفيع والسميك، خصلات بيضاء غزت الرأس إلا القليل، نظرات تنم عن بداية توهان وحيرة لا أحد يعلم عنهما شىء، وهى فى صمتها الأبدى تغلق عينيها وتفتحها ببطء، تتنهد ثم تغيب فى النظر بمرآه المصعد إلى أن يقف عند الدور الذى يقطنه الطبيب، تنتبه حينما يخبرها زوجها: ها قد وصلنا...
بالعيادة تجلس بانتظار لحظة لقائها بالطبيب بينما يجلس الرجل الكبير بمحاذاتها هى و زوجها العطوف الذى طيلة المدة لم يكف عن إظهار كل ألوان الإهتمام والحنو عليها، يجلس جانبها يهتم بتفاصيلها يناولها زجاجة مياه لتروى ظمأها بين لحظات وأخرى، يمسك يدها بشعور "أنا معكِ لا تحملى هم شىء".. يضع يده الأخرى على كتفها كأنه يزيح ما على عاتقها من مسئوليات، وينفض غبار زلات وانكسارات ليال مضت دونه...
ظل يختلج بصدرها الذى كان يعلو ويهبط بمحاذاة أنفاس منهكة غير مستقرة تلك الحماقات التى طالما ارتُكِبت بحقها، كلما زاغ بصرها دون قصد تجاه ذلك الرجل الكبير زادت وطأة المرض و اشتد وخز عظامها.. كان زواجها الأول منه بمثابة طعنة غائرة تركت أثرها ومضت.. يا لقسوة السنين!.. تركت آثار لم تمحى مع الزمن ولا النسيان اشفاها.. دارت أمامها أحاديث طويلة، قاسية، لاذعة ومرهِقة حد الإجهاد، كيف كان يدور نقاش حاد وعصيب حول مَنْ سيتسوق ليبتاع مشتروات اليوم؟! من المسئول عن نظافة الدرج؟! من سيعد الطعام لكل أفراد بيت العيلة؟!.. من سَيستقبل الزوار الكثيرين لأصحاب البيت؟! من سيقوم بواجبات الضيافة؟! من ومن ومن؟! إستأذنى أصحاب البيت قبل زيارة بيت أهلك بل إستأذنيهم قبل كل شىء، قبل أن تتنفسى.. تُرى أتلك أشياء يمكنها أن تهدم بيت؟!.. أم أن "بيت العيلة" هو الهادم الأساسى؟!
صدى صوت من بعيد (إما أن تعيشى خادمة لأهلى وتمشين على قواعد البيت تحت وصاية أمى وحسب قوانينها أو تنصرفين من هذا البيت بجلبابكِ البائس) كانت كلماته الأخيرة تدوى كصفيرٍ ينخر الآذان ويُحدِث صدعًا بها، إنه ذاته جالسا جانبها الآن، لا يتذكرها على الإطلاق، لا ينظر بالجهة التى تجلس بها، اتضحت عليه ملامح رجل مسن ربما يكون مصاب بداء الزهايمر أو أن تعب العظام قد أحدث لامبالاة بأى شىء سوى المعاناة والألم، أو أنه يتظاهر بالنسيان، ربما أشياء كثيرة... عنها هى الآن بمنتصف العقد الخامس من العمر لكنها مازالت رائعة، مازالت حالمة، طَوْرًا تجدها قوية صلبة ذات صباح تملأ المكان حولك عبق زهور الربيع، ساطعة كشمسِ شتاء دافئ وأنيق، وطَوْرًا تراها ضعيفة هشة كورقة خريف بالية، تحترق جانبها من شدة سخونة ولهيب صيفها، على قدر ما عانته تجدها تجمع الشيء كله ونقيضه معا..
تمت زيارة الطبيب الذى طمأنها كثيرًا ونصحها بالراحة وعدم الإجهاد مع أخد بعض الأدوية المقوية للعضام و بعض المسكنات الخفيفة.. وفى صمت تام تخرج غالقة باب غرفة الطبيب مغلقة معه آخر الأبواب بينها وبينه وهو يجلس منتظرًا أن ياتى دوره، تنظر له نظرة شفقة يخالطها الأسى منصرفة من المكان، ثم تقترب من المصعد و زوجها يفتح لها بابه متأهبين للمغادرة..
-زوجها: ألم يحن الوقت ليعرف ابنته؟
-هى: لم أعلم على أى شىء كنتُ أُعاقَب للحد الذى جعله يتركنى وبأحشائى جنين لم يحاول ولو لمرة السؤال عنه.
-الزوج: البنت بانتظار مولودها الأول، من حقه أن يعلم أن هناك حفيد فى الطريق قادم إليه.
-هى: سيتركها و يتخلى مثلما فعل بأمها، هى تعلم أن لها والدًا بالچينات فقط لكنها لم تجد وسط قبح هذا العالم خيرا منك أبًا لها، إنها تريدك أنت.. هيا المصعد قد هبط.. لا عليك إشتقت لكوب شاى تتخلله ثمرات النعناع الخضراء معك لننسى الأمر معًا...
-الزوج: كما تحبين عزيزتى، لكن لا تطلبى من النسيان...
التعليقات