الرقص عبارة عن حركات إيقاعية يؤديها الجسم بمصاحبة الموسيقى في الغالب، وهو عادة طريقة تعبير منظم عن المشاعر من خلال تحريك الجسم بأساليب إيقاعية مرئية.
وتدلنا الموسوعة العربية العالمية أن هناك نوعين من الرقص: الرقص المسرحي، والرقص الاجتماعي، ويؤدي الرقص المسرحي راقصون محترفون بغرض تسلية المشاهدين، ومن أشكال هذا النوع من الرقص: الباليه، والرقص الحديث، والرقص البلدي، والرقص الشعبي، والرقص الشرقي، والرقص الأفريقي، ورقصة المطر، والمسرحيات الهزلية الموسيقية. أما الرقص الاجتماعي فيؤديه الفرد بغرض المتعة الذاتية، وهناك أشكال متعددة من هذا النوع من الرقص معظمها يتم وفق خطوات إيقاعية محددة، إلا أن الشخص يمكنه أن يؤدي حركات خاصة من اختياره في أشكال أخرى من هذا النوع من الرقص.
وقد كتب كثير من الشعراء قصائد عن الرقص، كما رسم فنانون تشكيليون حركات الرقص في لوحاتهم، وسوف نتوقف هنا عند أشهر شاعر، وأشهر رسام، دخل الرقص في نسيج إبداعهم الشعري والفني.
فقد كان أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 – 1932) بارعًا في وصف ليالي الرقص واللهو والطرب، حيث نلمح في "الشوقيات" قصائد تصور وقوعه تحت سيطرة النوازع المادية في بعض الأحيان، كما يشير الباحث محمد نعمة الله الندوي. وقد اندفع شوقي اندفاعًا إلى شيء من اللهو والخمر، ويصف المرقص والليالي الراقصة، وما تدار فيها من كؤوس الراح، فينهل منها ويتغنى بها، فيقول – على سبيل المثال - في وصف ليلة من الليالي الراقصة التي كان يقيمها الخديوي عباس بسراي عابدين بالقاهرة، وما كان من قوامها الخمر والعبث، فيقبل عليها مع المقبلين، ويتلذَّذ ويتغنَّى بها:
يُستَعادُ مُرقِصُهُ ** تارَةً وَيُقتَضَبُ
فَالقُدودُ بانُ رُبىً ** بَيدَ أَنَّها تَثِبُ
يَلعَبُ العِناقُ بِها ** وَهوَ مُشفِقٌ حَدِبُ
فَهيَ مَرَّةً صُعُدٌ ** وَهيَ مَرَّةً صَبَبُ
وَهيَ هَهُنا وَهُنا ** تَلتَقي وَتَصطَحِبُ
مِثلَما اِلتَقَت أَسَلٌ ** أَو تَعانَقَت قُضُبُ
الرُؤوسُ مائِلَةٌ ** في الصُدورِ تَحتَجِبُ
وَالنُحورُ قائِمَةٌ ** قاعِدٌ بِها الوَصَبُ
وَالنُهودُ هامِدَةٌ ** وَالخُدودُ تَلتَهِبُ
وَالخُصورُ واهِيَةٌ ** بِالبَنانِ تَنجَذِبُ
سالَتِ الأَكُفُّ بِها ** فَهيَ أَغصُنٌ نُهَبُ
وفي قصيدة أخرى يتطرق شوقي إلى وصف الراقصات الفاتنات فيقول:
تِلكَ شُموسُ الدُجى ** أَم ظَبِيّاتُ الخِيَمْ
تُقبِلُ في مَوكِبٍ ** شَقَّ سَناهُ الظُلَمْ
خِلتُ بِأَنوارِهِ ** قَرنَ ذُكاءٍ نَجَمْ
مَقصِدُها سُدَّةٌ ** آلَ إِلَيها العِظَم
حَيثُ كِبارُ المَلا ** بَعضُ صِغارِ الخَدَم
قَد وَقَفوا لِلمَها ** فَاِنسَرَبَت مِن أَمَم
تَخطِرُ مِن جَمعِهِم ** بَينَ لُيوثٍ بُهَم
خارِجَةً مِن شَرىً ** داخِلَةً في أَجَم
ناعِمَةً لَم تُرَع ** لاهِيَةً لَم تَجَم
اِنتَشَرَت لُؤلُؤاً ** في المُهَجاتِ اِنتَظَم
تَمرَجُ في مَأمَنٍ ** مِثلَ حَمامِ الحَرَم
مُؤتَلِفٌ سِربُها ** حَيثُ تَلاقى اِلتَأَم
مُندَفِعاتٌ عَلى ** مُختَلِفاتِ النَغَم
بَينَ يَدٍ في يَدٍ ** أَو قَدَمٍ في قَدَمْ
تَذهَبُ مَشيَ القَطا ** تَرجِعُ كَرَّ النَسَم
تَبعَثُ أَنّى بَدَت ** ضَوءَ جَبينٍ وَفَم
تُعجِلُ خَطواً تَني ** فاتِنَةً بِالرَسَم
تَجمَعُ مِن ذَيلِها ** تَترُكُهُ لَم يُلَم
تَرفُلُ في مُخمَلٍ ** نَمَّ وَلَمّا يَتِم
تَتبَعُ إِلّا الهَوى ** تَقرَبُ إِلّا التُهَم
في القصيدة الأولى نرى شوقي يصف مجموعة من الراقصين، وكأننا نراهم في لوحة محمود سعيد "في المرقص"، أما القصيدة الثانية، ففيها يصف شوقي راقصةً واحدة تذهب مشي القَطَا (والقَطَا من الطيور العربية الجميلة) وترجع كرّ النسم (تعود مثلما يعود النسيم) وكأننا نشاهد "الراقصة" في أكثر من لوحة من لوحات محمود سعيد.
في قصيدته عن دمشق وعن "دمّر" إحدى ضواحيها، يصف شوقي شجر الحور بالنساء الحور والراقصات، فشجرة الحور – كما يرى الشاعر أحمد عبدالمجيد – تمتلئ جذورها وسيقانها بالغصون والأوراق، في حين تخلو أعاليها من هذه الأوراق، شأن الراقصة التي يتعرَّى نحرها وتكتسي ساقها. يقول شوقي:
وَالحورُ في دُمَّرَ أَو حَولَ هامَتِها ** حورٌ كَواشِفُ عَن ساقٍ وَوِلدانُ
وَرَبوَةُ الوادِ في جِلبابِ راقِصَةٍ ** الساقُ كاسِيَةٌ وَالنَحرُ عُريانُ
وإذا نظرنا في لوحات الفنان التشكيلي الرائد محمود سعيد (1897 – 1964)، فسنجد لديه أكثر من لوحة تُعنى بالرقص والمراقص، وقد رسم لوحة "في المرقص" عام 1934 وفيها يتعانق الراقصون، كل اثنين يتعانقان وهما يرقصان، وكأننا نقرأ وصف شوقي لهما: (فَالقُدودُ بانُ رُبىً / بَيدَ أَنَّها تَثِبُ. يَلعَبُ العِناقُ بِها / وَهوَ مُشفِقٌ حَدِبُ).
ويبرز في مقدمة اللوحة أربعة أشخاص، في النصف الأيمن يضع الشاب يده في وسط مَنْ يراقصها، محتضنا إياها والفتاة تعطينا ظهرها في تكوين أنثوي خلفي مثير، بينما هي تضع ذراعها الأيسر على كتف الشاب الأسمر الأطول منها بعض الشيء، بينما يوجد تباعد بين وجهي الراقصين على يسار منتصف اللوحة، ويبرز صدر الفتاة ذات الملامح الأرستقراطية (وَالنُهودُ هامِدَةٌ / وَالخُدودُ تَلتَهِبُ)، بينما الجسدان متلاحمان كأنهما كتلة واحدة فيما بعد منطقة الصدر، ثم تتباعد ساق الراقصة اليمنى عن جسد الراقص، مما يعطي انطباعا بحركية اللوحة أو تحرك الراقصين فيها، رغم ثباتهم.
وإلى جانب ذلك هناك لوحتان لراقصة، الأولى رسمها سنة 1936 والأخرى سنة 1949، والأخيرة كانت لدى الأميرة فايقة (أخت الملك فاروق). فضلا عن لوحة "رقصة الزار" 1939، ورقصة "الذِّكْر" 1939.
في رواية "اللون العاشق" التي تحدثتُ فيها عن "بنات بحري" اللائي رسمهن محمود سعيد قلتُ على لسان الرسَّام: "إن في حلاوتهم كنزًا فرعونيًّا يسكن في عينيها، وفي قوامها، وفي شفتيها الغليظتين بعض الشيء الدافئتين المُسكرتين كأنهما كأسان من خمر، وأنا في طريقي لاكتشاف هذا الكنز. هي تظن أنني راغبُ متعة، لم تعرف أنني أرغب في الاكتشاف والمعرفة والتجوال، وأن جسدها طريقي إلى هذا الاكتشاف عن طريق الأداء الجسدي الحركي، فأنا لا أنظر إلى جسدها على أنه ساكن أبدا، إنه جسد متحرك رغم سكونيته وهدوئه الظاهري. وأعتقد أن سُمرة الجسد تظهر حركيته أكثر من بياضه. لذا أرى جسد حلاوتهم الأسمر الناعم الشفَّاف جسدًا متحركًا دائما. هي لا تدرك ذلك بطبيعة الحال ولا تدرك معنى فيزيائية الجسد الأنثوي. وهو أداء ينزع إلى المشهدية أو مسرح الصورة، ويمزج بين الحركات التجريدية ذات المنحى الرمزي والحركات اليومية المستمدة من التراث الشعبي، وإلى حدّ ما الرقص الحديث أو الباليه.
عندما كانت تتلوى راقصةً في بعض الأحيان، كانت تتجسد أمامي رقصات المصريات للآلهة أمام معبد الكرنك. وكنت أرى في الأضواء المنبعثة على جسدها، الشمس التي تتعامد على المعابد المصرية القديمة، فأقرأ بعض التراتيل الفرعونية التي أحفظها، وتلاحظ هي تمتمات شفتي، فتظن أنني مضطرب بعض الشيء، فتحاول تهدِأتي بمزيد من القبلات المُسكرة".
وإلى جانب حلاوتهم ولوحة "في المرقص" هناك لوحة رسم فيها محمود سعيد رقصة الدراويش عام 1929، بعد أن حضر وشاهد إحدى حفلات الطريقة المولوية في تكيتهم بقلعة صلاح الدين، فأثاروا دهشته بطريقة رقصهم الغريب الذي ينطوي على دلالات وتفسيرات ألِّفوها لتزيدهم ومريديهم حماسًا واندماجًا وهم يترنحون ويدورون حول أنفسهم بلا راحة أو هوادة بطرابيشهم الطويلة وملابسهم الغريبة التي تميز طريقتهم عمَّا سواها من الطرق الصوفية الأخرى.
في هذه الليلة لم ينم الفنان وأخذت أطياف الراقصين تشاغله وتشحذ بصره ووجدانه. وفي اليوم التالي عاد إلى الإسكندرية، إلى مرسمه مباشرة، لم يذهب إلى فيلته في جناكليس، كان يريد أن يفرِّغ شحنته الانطباعية عن تلك الرقصة الدرويشية في عجالات مختصرة بلمسات لونية عفوية كثيفة.
قال الفنان: "عندما كنت في القطار المتجه من القاهرة إلى الإسكندرية كنت أتساءل بيني وبين نفسي ماذا يفعلون؟ ولماذا؟ وكيف سأرسم كل تلك الانفعالات، وكيف أعالج الأشكال والأجساد في دورانها صعودًا وهبوطًا، وماذا عن حركة الجسم والأيدي والأوجه والأرجل والأكتاف، وما هي الألوان المناسبة لتلك الحالات، هل أختار نفس ألوان الملابس والأردية التي يلبسونها، أم اختار ألوانا روحانية ورمزية؟
قلت في نفسي: المهم أن أبدأ وسيأتي كل شيء لاحقًا. وفي حقيقة الأمر كنت مترددًا كثيرًا، كنت خائفًا، وأنا الذي رسمت من قبل مئات الأعمال ومررت على عشرات المدارس الفنية في مصر وفرنسا وغيرها، ودرست الدراسات الحرة في أكاديمية جوليان بباريس أثناء دراستي للحقوق والقضاء، وزرتُ الكثير من المتاحف العالمية والمعارض العامة والشخصية. ولكني أمام "الدراويش" أحس بأحاسيس مختلفة تتسرب إلى وعيي ووجداني، هناك دلالات رمزية لا بد أن أعبر عنها لم توجد من قبل في أي لوحة شاهدتها في كل عصور الفن المختلفة. ولا توجد لوحة تقترب من هذا الموضوع في لوحات متحف اللوفر العظيم، ولا أي متحف أوروبي آخر. وهذا في حد ذاته يُلقي بمسئولية كبيرة على عاتقي وأنا أُقدم على رسم "الدراويش".
حاولتُ .. وتم الانتهاء من اللوحة لكنها لم تنل كل رضائي، فما زالت في النفس بقية من الطموح والجموح والولع نحو "الدراويش". أشعر أنني كمن ينحت السحاب ولم ينته بعد، وهو ما جعلني أرجئ الرجوع إليها لحين العودة مرة أخرى إلى حفلة جديدة أو حلقة أخرى من حفلاتهم وحلقاتهم بالقلعة.
كنت أتساءل أيضا: لماذا القلعة وليس الأزهر؟ هل لأن علماء الأزهر لا يعترفون بالدراويش والصوفية؟ تساءلت أيضا: لماذا القلعة وليس مسجد الإمام الحسين؟ وحاولت عدم البحث عن إجابة، وعدم الإلحاح في السؤال".
ويبدو أن هناك من أصدقاء الفنان من أحب تلك اللوحة رغم عدم الوصول إلى مراميها وبات يلح على الفنان أن يشتريها أو يهديها له: "ألحَّ صديقي القاضي محمود عبدالوهاب على طلب اللوحة التي يرى فيها الكثير من المعاني والدلالات الرمزية، وفي رأيه أن دلالات هذه اللوحة تواكب ما هو سائد من تيارات ثقافية تموج بالصراع والمتغيرات، وأن هناك تحريضًا على يقظة المجتمع من غيبوبة الاستسلام للغيب والخرافة. وأن السلبية التي تحكم سلوكيات الدراويش تستفز العقل المنظِّم الذي نحن عليه كقضاة، لا نقنع إلا بالمنطق والدافع والدليل وما يترتب عليه من حقائق.
لم يفهم محمود عبدالوهاب المغزى الروحي للوحة، وعلى الرغم من ذلك فقد أعجبته، وأراد أن يدفع ثمنها، رغم معرفته أنني لا أبيع لوحاتي لأصدقائي".
وإذا كان الرسام الفنان محمود سعيد قد اهتم برسم المرقص، وأهله، مثلما رسمهم أو وصفهم أمير الشعراء أحمد شوقي بحروفه وصوره الشعرية وتشبيهاته واستعاراته وألوان بَديعِه وإيقاعاته الموسيقية الراقصة في قصيدتين، فإنه – أي سعيد - اقترب – بعد ذلك - أكثر من رسم اللوحات التي تنقل لنا أجواء روحانية إيمانية، مثل "قارئ القرآن 1960 وقبلها "قبور باكوس" 1927، مثلما لجأ شوقي – بعد ذلك - إلى المديح النبوي والاحتفال بالمولد النبوي في قصائده، وهمزياته مثل "ولد الهدى" و"نهج البردة" و"سلوا قلبي" و"إلى عرفات الله"، وأرجوزته "دول العرب وعظماء الإسلام"، و"ضج الحجيج" وغيرها، فنراه زاهدًا متنسكًا يتقرب إلى الله بدعائه وكثرة تسبيحاته، ويستغفره ويتوب إليه خاشعًا متذللاً، بعد أن انغمس في وصف الخمر (حَفَّ كَأسَها الحَبَبُ / فَهيَ فِضَّةٌ ذَهَبُ) والرقص والراقصين في القصور الخديوية إبان فترة شبابه، على أن شعره اللاهي هذا لا ينبيء عن إغراقه في المجون، ولا يستطيع أن ينافس شعره الديني في الكثرة، بل كان يعجب بلقب "شاعر الإسلام" أكثر من إعجابه بلقب "أمير الشعراء".
التعليقات