جمعتني جلسة ودية مع مجموعة من الصديقات العربيات. اختلفت جنسياتنا وخلفياتنا الثقافية والاجتماعية لكن جمعنا حديث واحد أعاد لنا ضحكات طفولية وسيل من الذكريات لأيام كنا فيها أطفالا لا هم لنا سوى اللعب والانطلاق. في الحديث عن الطفولة ومباهجها تذوب الفروق واللهجات والبلاد. التمعت العيون واتسعت الابتسامات وبدأت كل واحدة منا في سرد مباهج طفولتها وحكاياتها ومغامراتها المحسوبة والطائشة مع الإخوة والأقران.
كم كان مذهلا تشابه ألعاب طفولتنا رغم اختلاف مواقعنا الجغرافية آنذاك. معظم الألعاب نعرفها جميعنا في مصر وبلاد الشام والخليج العربي. من منا لم يلعب (الاستغماية/ خلاويص) كما نسميها في مصر أو (الطميمة) في فلسطين وبلاد الشام أو (الغميضة )في الإمارات؟! (طاق طاق طاقية) و(الثعلب فات وفي ديله سبع لفات) لعبة جماعية جمعت أطفال المنطقة باختلاف مسمياتها. من من بنات جيلنا لم تلعب ا(لأولى) أو (الحجلة) أو (الخطة) أو (الكابي)؟! الفتيات في مصر تحلقن في سعادة: (فتحي يا وردة قفلي يا وردة!) كان حبل النط حاضرا دائما كلعبة فردية أو ثلاثية تتبارى الفتيات على أكبر عدد من القفزات ويتبارى الصبيان على من الفريق الأقوى الذي يشد الآخر.
لم تكن الكرة عائقا أما الصبيان ليلعبوا لعبتهم المفضلة فكان يكفيهم مجموعة من الشرابات القديمة التي يتبرع بها اللاعبون عن طيب خاطر لتشكل كرة شراب تفي بالغرض يركلونها في سعادة. لم يطلبوا كرات من ماركات شهيرة ولم يشككوا يوما في أداء كرتهم المصنوعة بإيثار وحب. البلي في مصر هو البنانير في فلسطين والمازات والدواحل في الأردن والتيلة في الإمارات وهي كرات زجاجية صغيرة شفافة كان يتنافس الصبيان على اقتنائها في صناديق معدنية أو ورقية صغيرة ربما تعود لمنتج غذائي أو استغنت عنها الأم لأي سبب. من منا لم يلعب لعبة (ملك ولا كتابة)؟!
كانت الحياة بسيطة وكذلك كان أطفالها. يصنعون لعبهم بأيديهم فكانت أحلى الطائرات الورقية تصنع من الورق وأعواد الخوص. كانت الفرحة حاضرة دون مقارنات أو تذمر بحثا عما ليس موجودا دون الامتنان بما هو متاح بالفعل. الطفولة تعني الجماعة وروح الفريق. يلعب الكل مع الكل جيرانا وأصحابا ومن السهل تكوين صداقات جديدة وصحبة فقط لتشارك في اللعب. أوقات الفراغ غير فارغة بل ملأى بالأنشطة والاختراعات. بعلب صفيح وعصا خشبية والقليل من الحبال والأحجار كانت تخترع الألعاب ويتفق على تسميتها.
عبرت الألعاب الشعبية عن روح الشعوب وتوارثتها أجيالنا بحب واعتزاز. يلعب الأطفال وينطلقون بحرية ولياقة عالية يضحكون ويتشاركون ويتنافسون في حب وود. يتعلمون قيم الفريق والجماعة يشجعون من فاز ويتمنون حظا أوفر في المرات القادمة لمن لم يحالفه النجاح. يفرغون طاقاتهم في الهواء الطلق خارج أسوار البيت وضيق المساحات. كان للصبية ألعابهم وللبنات ألعابهن وهناك ألعاب مشتركة. لم تتلوث نفوسهم الغضة بمفاهيم دخيلة ولم يشغل بالهم التحدي ولا استعراض من الأقدر ومن الأقوى أو الأضعف. كان هدفهم المتعة والفرحة وما أسماه من هدف!
أين أطفال الأمس من أطفال اليوم الذين أصبحوا أسرى غرفهم. تحولت استدارة عيونهم إلى شكل مربع يماثل الشاشات التي أصبحوا لصيقين بها. من شاشة لأخرى يقضون أحلى أيام حياتهم. لا يتحدثون ولا يتسامرون ولا يتبادلون النكات ولا الحكايات بل وسائل اتصالهم كلمات مكتوبة برموز غريبة ولغة هجينة منطوقها غير مكتوبها. يلتقون عبر الأثير وربما تمر أشهر وهم لا يعرفون أسماء بعضهم البعض ولم يروا حتى ملامح وجوههم! أفرطوا في الكسل وظهرت أمراض سمنة وتيبس عضلات من قلة الحركة بل وانعدامها في كثير من الأحيان. تحولت حياتهم لكبسة زر فبكبسة زر يطلبون الطعام ويسبحون ويركضون بل ويطيرون في عالم افتراضي مخيف سلبهم طفولتهم وتركهم حتى بلا ذكريات يحكونها يوما ويتذكرونها فتدمع أعينهم شوقا للأيام الخوالي. لديهم كل شيء ويفتقدون كل شيء. لا شيء يرضيهم ويتطلعون دوما للتحديثات والنسخ المطورة من كل شيء. كل طفل منعزل في فقاعة بسماعات على أذنيه وشاشة بين يديه.
ندين بالفضل للتكنولوجيا فهي سبب في تطور حياتنا لكننا دفعنا ثمنها غاليا. يقول البعض أن الأوان قد فات لنستعيد طفولة هذا الجيل الرقمي لكنني على ثقة من أن الأمل مازال نابضا. يلزمنا فقط تقنين ساعات اللعب الإلكتروني وحثهم على الخروج وتوفير البدائل المرضية لهم. على المدارس إحياء الألعاب الشعبية القديمة في فترات الاستراحة وحصص الألعاب وتخصيص مهرجانات وأيام رياضية توقظ فيهم طفولتهم وتحيي روحهم التي ما زالوا يجهلون ما يمكنه أن تجلبه لهم من مباهج أيام طفولة لن تتكرر.
التعليقات