بين عشية وضحاها تتغير حياة الإنسان بخبر يأتيه من هنا أو هناك يجلب فرحة أو يكون غمة. عند وقوع الابتلاء يكون الأمر قاسيا وردة الفعل شديدة. من حق الإنسان أن يصرخ، يبكي، يدق الأرض غضبا أو حتى يصمت ذاهلا. لا غبار عليه ولا لوم لكن ماذا بعد؟! هذا ليس حلا. التعبير عن المشاعر والتنفيس عنها حق إنساني أصيل لا يستهان به ولا يقلل من شأن صاحبه. بعد الصدمة والحزن لابد من الهدوء واستعادة التوازن. (رفضنا للابتلاء لن يغير من الواقع شيئا. الابتلاء واقع واقع شئنا أم أبينا. تذمر كما تشاء! اغضب كما تشاء! لن ينالك سوى المزيد من الصعوبات التى تضيفها بيديك لما أصابك بالفعل.)
طفل نشيط مفعم بالحيوية يعرج في مشيته فجأة بدون مقدمات. يشكو من ألم في فخذه يؤرق نهاره وليله. زيارة لطبيب العظام وأشعة سينية ثم خبر يقين بوجود زائر غير مرغوب فيه؛ مرض عظام أطفال نادر. ليج كالفيه بيرثيز أو مرض تنخر العظام يصيب الأطفال دون سن البلوغ بسبب قصور مفاجيء في الدورة الدموية المغذية لمنطقة الحوض. نتيجة لتوقف الدم عن تغذير رأس عظمة الفخذ تضعف وتتفتت مما يسبب الألم الشديد والعرجة لدى الطفل. لا يوجد سبب معلوم للمرض فهو ليس فيروسيا ولا بكتيريا ولا وراثيا وغير معدٍ. نادر ويصيب الذكور أكثر من الإناث. ليس له علاج ولا فترة زمنية ثابتة من بدايته لنهايته. تعود الدورة الدموية للانتظام وتبدأ معها رأس العظمة في النمو من جديد تماما كورقة نبات ذبلت ثم غمرتها المياه مرة أخرى. الفرق في أن نمو العظمة يختلف عن النبات. يجب أن تنمو العظمة كروية الشكل وإلا كانت سببا في خشونة المفصل مستقبلا والحاجة لاستبداله بآخر صناعي.
نزل علي الخبر كالصاعقة يومها. طفلي السعيد النشيط عليه الامتناع عن التفكير في كرة السلة والتفكير في كرة المفصل المتآكلة! هما خياران لا ثالث لهما: الاستسلام أو المقاومة. تجاهل الأمر والاكتفاء بندب الحظ والبكاء لن يغير من الواقع شيئا لذا فالبديل هو خوض معركة البقاء والتعامل مع الابتلاء بصبر وحكمة. بدأت الرحلة في عيادات الأطباء وبدأت دوامة الحيرة فلا كلمة موحدة ولا سياسة ثابتة للتعامل مع المرض. لا توجد معلومات كافية عنه باللغة العربية ولا توجد حالات سابقة حتى استشيرها. كان الحل في اللجوء للمصادر الأجنبية على شبكة الإنترنت. كنت متتنة للغتي الإنجليزية التي مكنتي من سبر أغوار الأوراق البحثية والمصادر الطبية. هداني بحثي لمجموعات دعم على صفحات الفيسبوك والتي كانت خير معين. على اختلاف ألسنتنا وبلادنا وخلفياتنا الثقافية وحدتنا الإنسانية وأمراضها ومشاكلها.
عرفت عن المرض ودرسته جيدا. كانت الشهور تمر ومعها يزداد تآكل العظمة حتى كادت تخرج من المفصل وهنا وجب اتخاذ الخطوة الحاسمة. (لكن التعامل مع الابتلاء فن وثقة لا تأتي إلا بالاستعانة بالله. كما يصيبنا الله بالابتلاء يمنحنا القوة والحكمة فقط إذا أخلصنا في تقبلنا للأمر واستسلمنا كامل الاستسلام لقدر لا نملك منه فكاكاً ولا نستطيع له ردا!) كانت زيارة الطبيب التاسع في الرحلة علامة فارقة في حياتنا والتدخل الجراحي وسيلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتلته أشهر طويلة من العلاج الطبيعي والتأهيل النفسي والجسدي.
لم يكن ابني الصغير هو جل همي فبجانبه الكثير والكثير من الالتزامات التي علي القيام بها. كانت الرحلة مليئة بالقصص والعبر وانتهت وانتهى معها المرض ووجبت لحظة الوقوف مع النفس. لقد من الله علينا بالشفاء وآن أوان استيعاب الدرس ورد الجميل. ربما حمل الابتلاء ألما ظاهريا لكنه كان سببا في الخير الكثير. قررت كتابة تجربتنا الفريدة لتكون أول كتاب يتناول مرض تنخر العظام في الوطن العربي. كان ما يزعجني هو قلة المصادر المتاحة باللغة العربية وربما ما أصاب ابني دافع لأن أكون سببا في نقل خلاصة التجربة لغيري. كوني مترجمة أتاح لي الاطلاع على الكثير من التجارب والمعلومات وعلي مساعدة من يبدأ رحلته المبهمة علني أكون ضوءاً في آخر النفق.
في عام 2019 صدر كتاب(أنا وابني وست أرجل) عن دار الشروق في مصر ثم أعدت كتابته باللغة الإنجليزية ونشرته لي الدار إلكترونيا ليكون مصدرا متاحا للتجربة أعبر فيه عن امتناني لكل من ساعدني عبر الأثير. ومن هنا تحولت المحنة إلى منحة تعلمت منها الكثير مع ابني على المستوى الطبي والإنساني. أصبحت خبرتي مع المرض تؤهلني لمد يد العون لغيري فقررت بمساعدة أمهات جمعتنا التجربة لإنشاء مجموعة دعم للمرض في الوطن العربي على صفحات الفيسبوك.
في 2015 كان الأمر مخيفا ومقلقا. عصفت بي الحيرة وتبدلت كل تفاصيل حياتي اليومية لكن بالصبر والدعاء والتماس كل أسباب العلم تنكشف الغمة.(الابتلاء رزق وكما يحمل ألماً ظاهرياً يحمل في طياته رحمة لا يدركها إلا من تقبل الابتلاء بقلب راض وتسليم تام بأنه الخير وإن كنا لا نعلم لماذا.) ربما كان الابتلاء في بدايته خاصا بأم وابنها لكنه تحول إلى بذرة خير وباب عون يلج منه الكثيرون. بدأت معه رحلتي من مترجمة لكاتبة ومن أم تبحث عن ضوء في نفق مظلم لأم تحمل الشعلة لآخرين فحق قولي( أيها الابتلاء شكرا لك!)
التعليقات