كل شيء كان يتحرك خارج نافذة حجرتى بالسفينة، المشاهد تتوالى، الدقائق تمضى مع اتجاه سير السحب، الأمواج ترتفع وتهبط والشمس تتغير مساراتها والسماء تتغير ألوانها، بينما كنت فى حالة سكون!
اضطربت الحركة وحدث الهرج، السفينة تتحطم، ويتلاشى فى غيابات الضباب الزمان والمكان وتنعدم رؤية الاشياء.
وجدت نفسي وسط أشجار كثيفة فى جزيرة غريبة!
جرعة لبن فى قدر صغير من الفخار أنقذتني من الهلاك.
عندما تنبهت وعادت إلى الروح التى كادت أن تغادر جسدى الضعيف، وجدته أمامى مبتسما، بدا لي كأنه الإنسان الأول، شعره الأشعث الطويل ولحيته الطويلة، وشعر يغطي صدره وسترة جلدية تغطي نصفه الأسفل..
قال: لا تخف..
سألت: من أنت؟
أجاب: حي بن يقظان!
قلت: أنت أسطورة لا حقيقة.
- ها انا حقيقة أمامك.. قالها ساخرا.
- لكنك تتحدث بلغتي وكآنك من عالمى الذى كنت أعيش فيه.
- بل قل عالمك الذى تريد الهروب منه!
- كيف عرفت؟
- عن الغيب لا تسل..
- لماذا تريد الهروب؟
- لم اعد استطيع العيش فى عالم مزيف!
- العالم يابني عالم الاضداد،كل شيء له ضد وكل بناء يقابله هدم وكل شر يقابله خير..
- أين انا الآن؟
- فى جزيرة النجاة.
- وهل من أحد سواك هنا؟
- الهاربون من عالمك والحيوانات وأنا!
وأشار لأكواخ صغيرة متجاورة..
نظرت فرأيت على البعد نساء ورجالا وأسودا وذئابا وثعالب وغزلانا وماشية وجمالا.. يالها من غابة!
قرأ مادار بعقلى وقال:
القانون هنا يقول العدل اساس الحياة.
من أجل ذلك تجد الذئب يتعايش مع الشاة و الراعي فى سلام.
- ومن يحكم الجزيرة؟
- كلنا نعيش معا وكل منا يعرف حقه وواجبه..هيا لتعرف كوخك الذى سوف تعيش فيه.
غربت الشمس ودخل المساء وقبل هجوم الليل أضيئت السماء بأنوار بيضاء انبعثت من الشجر ومن النخيل و أمام الأكواخ.
ضغط على زر بجهاز تحكم صغير اخرجه من جيب فى سترته الجلدية،
فتح باب الكوخ، استقبلتنا إمرأة فاقت فى حسنها كل النساء اللواتى رأيتهن فى عالمى.
تسمرت قدماي وتسارعت نبضات قلبى.
- هذه عروستك الليلة؟
قالها وتركنى معها؟
نادتني بإسمي: تعال يا آدم، أنظر إلي سوف تعرفنى!
لم أعرف إمرأة بهذا الحسن من قبل.
- دع قلبك يراني.
شعرت بحركة فى القلب فهتفت:
تشبهين حبيبتى التى رأيتها يوما فى الحلم.
- الذى تتمناه فى عالمك ولم يتحقق تراه بين يديك فى عالم آخر.
أنا هي يا آدم.
كل شيء كان فى الكوخ جديدا.
الفراش، الستائر، وشاشة عرض لم أر مثلها من قبل.
الغريب أن كل شيء يبدأ عمله حسب الخاطر الذى يبدأ بعقلى وكأن خاطرى هو جهاز التحكم فى الأجهزة التى أمامى.
أدركت بعد قضاء ليلتى الأولى مع جنة أننى كنت فى جنة حقيقية ولكن لم اكن اعلم اهى على الأرض ام فى السماء؟
وأن العالم الذى اعيش فيه عالما حقيقيا وليس عالما إفتراضيا وانى لست احلم، ربماكان العالم الضد أو النسبي للزمان والمكان وللعالم الذى كنت أعيش فيه.
بزغ نور الصباح من جوف ليل ساحر حيث لا يوجد ظلام سوى فى قبور الجزيرة!
ترامى إلى سمعي صوت زفة قادمة وغناء وقرع طبول ودفوف، وعطر عود وبخور يفوح وقد اختلط برائحة عطر جنة الذى لم أشم مثله من قبل.
كان حي فى صورة أخرى غير التى رأيته عليها بالأمس، وجه جميل يشع منه نور وشعر قصير ولحية بيضاء مهذبة، بدا فى ثوبه الأبيض كأنه محرما لا يظهر من جسده سوى كتفه الأيمن، وكذلك كان من معه من الرجال، أما النساء كن كالملائكة والحمامات البيضاء.
دخل كوخي وبعض ممن كانوا معه، باركوا لنا بالدعاء، شدت وغنت حمامة بيضاء وانشد حي معها، وكانت جنة تضحك فيبدو لؤلؤها ويشع النور من عينيها
وابتسامات خجلى تجيب بها كلما سأل احدهما عن أخبار ليلة العرس!
- اتريد ان ترى عالمك الذى جئت منه يا آدم؟
قال حي وأبديت رغبتي فى الرؤيا..
أشار للشاشة الكبيرة المعلقة على الحائط، أخذ يتنقل بين المحطات ويعلق على كل حدث يظهر عليها.
هذه حروب الشرق مع الغرب وهذه صراعات الشمال و الجنوب،
فى القارة السمراء ترى كل انواع الجنون وفى القارة البيضاء تجد كل انوع المجون!
بقيت المحطة الأخيرة وأخشى أن تراها الأن فلا تتحمل ما سوف تشاهده.
أبديت دهشتي، هز رأسه واسترسل:
يابنى لقد بدأت علامات الوعيد
واقترب اليوم الموعود!
قبل أن يغادر سألته:
هل انت ابن الأرض ام ابن الانسان؟
- لاتشغل بالك وعش حياتك مع جنة واستعد لتبدأ فى العمل مع أهل الجزيرة.
- وهل سأعود إلى عالمى؟
ضحك ضحكة صافية وقال:
تحتاج لمائة سنة ضوئية
لتعود إلى عالمك!!
التعليقات