يعد أحمد حسن الزيات (1885 – 1968) واحدًا من كبار رجال النهضة الثقافية في مصر والعالم العربي، ومؤسس مجلة "الرسالة". اختير عضوًا في المجامع اللغوية في القاهرة، ودمشق، وبغداد، وفاز بجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1962.
ولد في محافظة الدقهلية بمصر، ونشأ في أسرة متوسطة الحال، تعمل بالزراعة. تلقى تعليمه في كتَّاب القرية، فحفظ القرآن وتعلَّم القراءة والكتابة، ثم أُرسل إلى أحد العلماء في القرية المجاورة ليتعلم القراءات السبع وأجادها في سنة واحدة.
ثم التحق بالجامع الأزهر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وظل فيه عشر سنوات، وتلقى في أثنائها علوم الدين واللغة العربية، إلا أنه كان يفضل الأدب فتعلق بدروس الشيخ سيد علي المرصفي الذي كان يدرس الأدب في الأزهر، كما حضر شرح المعلقات للشيخ محمد محمود الشنقيطي، أحد أعلام اللغة العربية البارزين آنذاك.
اتصل بطه حسين، ومحمود حسن الزناتي، وكانوا يقضون أوقاتا طويلة في دار الكتب المصرية لمطالعة عيون الأدب العربي، ودواوين فحول الشعراء. ولكن الزيات لم يكمل دراسته بالأزهر وإنما التحق بالجامعة الأهلية فكان يدرس بها مساء ويعمل صباحا بالتدريس في المدارس الأهلية.
والتقى الزيات في عمله بالعديد من رجال الفكر والأدب في عصر النهضة، مثل: شوقي والعقاد والمازني، وأحمد زكي (شيخ العروبة)، ومحمد فريد أبو حديد.
واختارته الجامعة الأمريكية بالقاهرة رئيسا للقسم العربي فيها في عام 1922 م، وفي أثناء ذلك التحق بكلية الحقوق الفرنسية، وكانت الدراسة بها ليلاً، ومدتها ثلاث سنوات، أمضى منها سنتين في مصر، وقضى الثالثة في فرنسا حيث حصل على ليسانس الحقوق من جامعة باريس في سنة 1925.
في عام 1929 اختير أستاذًا في دار المعلمين في بغداد، فترك العمل في الجامعة الأمريكية وانتقل إلى هناك. ولم ينتمِ الزيات طيلة حياته لأي حزب سياسي ولا أي وظيفة حكومية.
بعد عودته من بغداد عام 1933 ترك التدريس، وانتقل للصحافة والتأليف. ثم قام بإصدار مجلة "الرسالة"، التي أثرت بقوة في الحركة الثقافية الأدبية في مصر والتي استمر صدورها قرابة العشرين عاماً. كما أصدر بعد ذلك مجلة أخرى اسمها «الرواية» وكانت تختص بالقصة القصيرة أو الرواية المطولة تنشرها مسلسلة، واستمر صدورها عامين وكتب فيها كبار الكتَّاب، كما كانت تشجع القصاصيين الشبان وبينهم كاتب ناشئ (وقتها) هو نجيب محفوظ، وكانت أول قصة نشرها بعنوان «ثمن الزوجة»، ثم أدمجت «الرواية» بالرسالة، ثم اضطر الزيات إلى التوقف عن إصدار «الرسالة الرواية» بسبب الظروف الاقتصادية، وتولى رئاسة مجلة الأزهر.
ولما أمّمت الصحافة في مصر، حاولت وزارة الإرشاد القومي إحياء "الرسالة" وعينت الزيات رئيسًا لتحريرها مرة أخرى، ولكن المحاولة لم تنجح لأن الزمن كان قد تغيّر، وأذواق القراء قد تطورت، والصحافة اتجهت وجهات جديدة، فلم يكتب للرسالة أن تستعيد مكانتها السابقة أو تجدد مجدَها القديم، وتوقفت مرة أخرى بعد بضعة أعداد.
من مؤلفاته: تاريخ الأدب العربي، في أصول الأدب، دفاع عن البلاغة، وحي الرسالة" (جمع فيه مقالاته وأبحاثه في مجلة الرسالة).
ومن أعماله المترجمة من الفرنسية: آلام فرتر" لغوته. رواية روفائيل للأديب الفرنسي لامارتين. بالإضافة إلى كتابه "من الأدب الفرنسي".
تعرَّف الزيات إلى أمير الشعراء أحمد شوقي واقترب منه، وآنس له الشاعر الذي كان يرى – كأكثر الناس – أن الرجل إذا لم يعمل في الحكومة كان أشبه بالمتشرد، لذلك كان قَلِقًا على الزيات من هذه الناحية، ويعجب أن لا يكون له مكان في وزارة المعارف، ثم أخذ يسعى من وراء علم الزيات لدى وزير المعارف (على الشمسي باشا) ويمهد له السبيل إلى لقائه، وفي ذات ليلة من لياليه، قال شوقي للزيات، وهما يجلسان في ركن من أركان مقهى وبار "صولت": سأنتظرك غدًا هنا في الساعة الحادية عشرة صباحًا، فتعال ومعك مجموعة من كتبك لنزور وزير المعارف. فقلت له: وما شأني بوزير المعارف؟ فقال: إنه يود أن يراك، ولعله من الخير أن تراه.
فلما دخلنا على الوزير في الموعد المحدد الموقوت قدَّمني وكتبي إليه. فسلم الرجل تسليم البشاشة وشكر شكران الغبطة، وجرى في حضرته حديث عنى استجاز شوقي فيه ما لايجوز إلا للشاعر من المبالغة في المدح والمجاملة في الثناء، ولما خرجنا من عنده رَبَتَ شوقي على كتفي، وقال وهو مبتهج: لقد وعدني الوزير أن يضمك إلى الوزارة. فقلت له، ولم أدهش لأني حزرتُ ذلك من قبل: ألهذا جشمت نفسك يا سيدي ونفسي؟ حد الله بيني وبين الحكومة، لقد حاول هذه المحاولة كثيرون منذ أربع سنوات، ولكن شوقي الصديق الشفيق لم يُرضه هذا المنطق، فظل مشفقًا عليَّ من العمل الحر، حتى رحلتُ عن البلد، فودَّعني راضيًا، وما كنت أدري، واأسفاه أنه وداع الأبد.
كان الزيات يرى أن شوقي تعويضٌ عن عشرة قرون خلت من تاريخ العرب لم يظهر فيها شاعر موهوب يصل ما انقطع من وحي الشعر، ويجدد ما اندرس من نهج الأدب، ويحفظ للبيان الأدبي قسطه المأثور من التعبير الملهم عن كلمة الله المنبئة في الكون وأسرار الجمال في الطبيعة ومعاني الخير الغامضة في الحياة.
وكان يقول عنه: إنه شاعر العبقرية، وهي ضرب من الإلهام يستمر استمرارًا تجديديًّا، فتلازم أحيانا، وتنفك أحيانا، ومن أخص صفاتها الأصالة والإبداع والخلق.
والرجل العبقري يعلو ثم يسفل تبعا لقيام العبقرية به أو انفكاكها عنه، وهو يخشِّب الشعر غالبا فيرسله من فيض الخاطر، كما يجئ دون تنقيح له ولا تأنق فيه.
وذو العبقرية ينظر ويشعر ويفكر ويقدر على طريقته الخاصة. فإذا وضع خطة أو رسم صورة أو بحث فكرة أخرجها على طراز فذ، فتحسبها مبتكرة وقد تكون مسبوقة، لأنه استطاع بقوة لحظه، ولقانة طبعه، أن يريك فروقًا لم ترها، ويقفك على تفاصيل لم تتصورها، ويفجر لك النهر من حيث لم يستطع غيره أن يفجر الجدول.
والرجل العادي ينظر بالعين فكأنه لسطحيته لم ير! والعبقري يرى باللمح فكأنه لزكانته لم ينظر.
وشوقي – كما يراه أحمد حسن الزيات - غير محدود بالصنعة، ولا مقيد بالشكل، وإنما هو فيضٌ يسخر بالحدود، ونور ينفذ من الستور، وإلهام يتصل باللانهاية. فأنت حيال شاعر روحُه أقوى من فنه، وشعره أوسع من علمه، وحكمته أمتن من خلقه، وقدرته أكبر من استعداده، فلا شك في أنه وسيط لروح خفية تقوده، ورسول لقوة إلهية تلهمه، ثم تفارقه حينا تلك الروح، وتفرق عنه هذه القوة، فيعود رجلا أقل من الرجال، وشاعرًا أضعف من الشعراء، فينظم في افتتاح الجامعة ومشروع القرش، وما إلى ذلك، فيأتي بما لا وزن له في النقد ولا مساغ له في الذوق.
وشوقي تحت العبقرية يتنزل عليه الموضوع جملة، ثم يشغله عن تفاصيله التفكر في الغاية، والتحديق في الغرض، فيرسله من فيض الخاطر شعرًا متسلسلا متصلا تضيق عن معانيه ألفاظه، كما تضيق شطئان الرمل عن الفيضان الجائش المزبد. ومن ثم كان التجديد والتعقيد والتدفق والعمق من أقوى خصائص شوقي.
وكان أشد ما مكّن الألفة بيني وبينه مشابه في الطبع من فرط الحياء، وحب العزلة، وقلة الكلام، والانقباض في النديِّ الحافل، والابتعاد عن الحفل الجامع، فكأنّ كلا منا كان يرى في الآخر عزاءً عن نقصه، وعوضًا عن حرمانه.
التعليقات