ارتبطت الأعياد في ذهني منذ سنوات طفولتي الأولى بالشوارع المزينة بالأوراق الملونة وفوانيس رمضان والأغاني التراثية التي حفظناها ظهرا عن قلب والتي لا يخلو منها متجر قبيل الشهر الكريم الذي يبدأ بكل أنواع الحلوى الشرقية المميزة تتربع على قائمته القطائف والكنافة ثم ينتصف ليطل علينا الكحك بأنواعه وتستبدل الأغاني بأغاني العيد. وكذلك الحال في ترقب عيد الأضحى أو كما نسميه في مصر (العيد الكبير). في العيدين ترتفع حماسة الأطفال بالملابس الجديدة وترتفع وتيرة الاستعدادات في البيوت. تخطط الأمهات للزيارات والولائم وتتجدد اللقاءات الأسرية التي تلم شمل أفراد فرقتهم الأيام طوال السنة. يجتمع الأطفال بملابسهم الجديدة وتتسع ابتسامتهم بما يحصلون عليه من (عيدية) تملأ جيوبهم الصغيرة.
تبتهج الشوارع بألوان زاهية وبالونات ملونة ووأحيانا أصوات احتفالات صاخبة عندما يجتمع الأطفال والشباب في حماسة للاستمتاع بفرقعة بعض الألعاب النارية. تعم الفرحة على كل سكان الحي فالعطلة مشتركة والبهجة للجميع مسلمين ومسيحيين. كبر الأطفال وكبرت معهم.
وفي يوم ما وجدت نفسي في أوروبا. كنت واحدة من هؤلاء العرب المسلمين في بريطانيا وتحديدا في اسكتلندا. يسافر العرب ويغتربون عن بلادهم لأسباب كثيرة منها التعليم والعمل والعلاج وربما للهجرة. تتوالى الأيام عليهم متشابهة مكررة يكونون فيها جزءا من الكل فيسيرون كما يسير غيرهم ثم تأتي لحظة يدركون فيها تمايزهم عن الغير عندما تهل الأعياد والمناسبات الدينية.
قبيل رمضان تصلني رسالة من مديرة مدرسة أولادي تهنئة بالشهر الكريم واستفسار عن رغبتي في كيفية قضاء الأولاد لفترة الاستراحة اليومية وهل أرغب في بقائهما في الداخل بصحبة كتاب أم اللعب مع أقرانهما؟ وتسألني المديرة عما إذا كنت أفضل كتبا معينة يقرأها ابني وابنتي في الشهر الفضيل أو أنها يمكنها الاقتراح عليهما! لم يكن الأمر مجرد تقبل لاختلافنا لكنه أيضا تطور للبحث عن سبل لمساعدتنا على آداء الشعائر الدينية الخاصة بنا. في بداية التحاقهما أكدت لي أن هناك قائمة طعام (حلال) تقدم للطلبة المسلمين في مطعم المدرسة كل يوم بل وتعدى الأمر أن مدرسة ابنتي ذات الأربع سنوات كانت تتطوع لقراءة مكونات الحلوى قبل أن تأكلها لتتأكد أن ليس بها جيلاتين وأنها حلال!
رمضان على الأبواب ثم يتبعه عيد الفطر ثم عيد الأضحى. مهلا! أين الفوانيس والأوراق الملونة التي تزين الشوارع؟ أين الأغاني التراثية المميزة(رمضان جانا)، (يا ليلة العيد آنستينا)، (أهلا بالعيد)؟! هل سيمر اليوم كسابقه؟ ليست إجازة رسمية في البلاد وليس باليوم الذي طال انتظاره للأطفال؟ الملابس الجديدة موجودة لكن من سيراها؟ أين العائلة وأفراد الأسرة الكبيرة؟ أين الجد والجدة والخالات والعمات؟ من سيعيطهم العيدية وأين سيأكلون (الفتة) وأنى لهم بالكحك والبتيفور؟
يقولون إن اليوم يوم العيد. لقد أعلنوها رسميا في نادي الجالية المسلمة في المسجد وأعلنها شيخ الجامع المركزي. تم تحديد موعد صلاة العيد. لا نملك من مظاهره إلا الصلاة فلن نضيعها. نزلت برفقة زوجي وطفلي لنستقل الحافلة إلى المسجد الجامع في وسط المدينة على ضفاف نهر كلايد. أنظر حولي فلا أجد أثرا للعيد ولا بهجة ولا فرحة؛ لا شوارع مزينة ولا أطفال بملابس جديدة ولا أصوات مفرقعات طفولية ولا هدوء محبب في الشوارع وصخب ممتع في أماكن أخرى. الناس في حياتهم العادية. يا قوم إنه العيد! أذكر نفسي أنني لست في مصر وإنما أنا في اسكتلندا وتحديدا في مدينة جلاسجو.
أرسم البسمة على وجهي وأحاول أن أدخل الأطفال في أجواء بهجة مختلقة. اتصلنا بالأهل في مصر وتبادلنا معهم التحيات والمعايدات. لا أهل هنا ولا عيدية.
- لن ترى جدتي فستان العيد الجديد ولن ألعب مع جدي بسيارة السبق السريعة.
يتبادل طفلاي التنهدات ونحن في الطريق للجامع.
نصل لوجهتنا. المركز الإسلامي كبير صممت قبته على شكل جوهرة مصقولة. حديقته جميلة امتلأت بالزهور والبالونات الملونة. ها قد بدأت مظاهر العيد. البالونات الملونة تزين كل مكان والأطفال الصغار من كل الجنسيات يملأون المكان بهجة بملابسهم الوطنية المميزة. في استقبالنا أولاد وبنات من كل الأعمار والجنسيات بباقات ورود وأكياس الحلوى للصغار. خطوات قليلة فصلتنا عن الشارع لنجد أنفسنا في احتفالية سعيدة. الأطفال الباكستانيون يرتدون ملابسهم الوطنية المميزة والساري الهندي بألوانه الزاهية تزينه الخيوط الذهبية المطرزة بعناية. القفطان والقبعات الأفغانية والأثواب العربية ناصعة البياض والفساتين الأنيقة. (عيد مبارك) تحية يتبادلها الجميع بابتسامة واسعة وفرحة طاغية.
خطبة العيد ألقاها الشيخ بالعربية والأردية والإنجليزية. عجيب أمرنا وقد اجتمعت خريطة العالم في مكان واحد. اختلفت الألسنة والجنسيات والأعراق واجتمعنا جميعا في عيد واحد. انتظمنا في صفوف ثم أقيمت الصلاة. بعدها بدأ الاحتفال في قاعة كبيرة تراصت فيها مأكولات من كل مطابخ الدنيا. الحلوى بكل أشكالها وألوانها واسمائها تزين جانبا من المائدة العامرة. تعالت الضحكات وانهمكت السيدات في تبادل الوصفات.
هناك تعايشت وكونت صداقات وكنت جزءا فاعلا في مجتمعي الجديد. احترام الآخر بما لا يتنافى مع احترام الذات وتفهمه والعيش في سلام مكونات نجاح المجتمعات. ثلاث سنوات قضيتها بحجابي درست وانطلقت في كل مكان استكشف البلد الجديد كسائحة وطالبة أحيانا وكمتطوعة لخدمة الآخرين أحيانا أخرى. أقيم صلاتي أنى شئت وأتناول طعاما حلالا بدون عناء. أحتفل بأعيادي وأكون نفسي بلا عناء. لم تكن الأرض بالطبع دوما مفروشة بالورود. تعرضت لاعتداءات عنصرية وحوادث اضطهاد لكن كنت دوما أحاول تفهم دوافع الآخر فأتسامح معه لأن الإنسان عدو ما يجهل وهم يجهلون من نكون ومعلوماتهم قاصرة كونتها بعض وسائل الإعلام الموجهة والسلوكيات الفردية المشينة لبعض المحسوبين علينا.
ربما اختلف مذاق العيد ورمضان في أوروبا بعيدا عن الوطن لكن عندما تجتمع القلوب الغريبة وتأتلف في جلسة ود وعواطف جياشة و شعائر مشتركة تذوب الفروق وتتسع الابتسامة. عيدكم سعيد أينما كنتم!
التعليقات