عندما يقرر أحدهم بين عشية وضحاها أن يكتب عن حياته فهذا القرار ليس عشوائيا ولا عاطفيا. لابد وأنه رأى أن هناك فيما حدث له في حياته ما يستحق أن يروى. تتعدد الدوافع من وراء قراره. ربما ما دفعه هو شعور طاغٍ بالسعادة أراد مشاركة الآخرين به أو ربما تعرض لتجربة حياتية مريرة بسبب مرض أو فقد عزيز أو تحول حاد في مسار حياته أراد أن يستخلص منه العبر ويجنب الآخرين ويلاته أو اعترته رغبة عارمة للبوح. كثيرا ما تصادفنا كتب تجارب شخصية لمدمني مخدرات أو غيرها ممن تعافوا بعد كفاح مرير وتنفسوا هواء نقيا فقرروا انتشال غيرهم قبل الوقوع في براثن هذا الوحش أو مساعدة الضحايا على تحطيم قيد الذل والعبودية لهذه العادة المدمرة. وكذلك هو الحال مع الكثير من أحداث الحياة التي يظنها البعض عادية وغير جديرة بالتدوين إلا أننا نجد بطلها قد رأى فيها ما لم يره غيره واستخلص منها ما هو جدير بالحكي والتأمل.
يقول الكاتب الأمريكي جورج ماي: (دوافع كتابة السيرة الذاتية تتجلى في تأمل الحياة الماضية وإعطاء معنى لإشراقاتها السابقة وإعادة تسطير الذاكرة لأجل خلق حياة جديدة). وقد ظهر هذا النوع من الإبداع قديما عندما كتب الأسقف أوريليوس (اعتراف) ثم تبعه عالم اللاهوت أبيلار في كتابه (تاريخ بؤسي) ولعل اعترافات الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الصادمة من أشهر ما كتب. ولا يخلو عالمنا العربي من إبداعات فهناك (الأيام) لعميد الأدب العربي طه حسين و(أنا) لعباس محمود العقاد و(أوراق العمر) للويس عوض و(حياتي) لأحمد أمين و ابنه جلال أمين من بعده (ماذا علمتني الحياة).
ولم تكن المرأة العربية بمعزل عن الكتابة عن حياتها والتعبير عن نفسها وما عجزت عن البوح به علانية فكتبت بنت الشاطيء عائشة عبدالرحمن(على الجسر بين الحياة والموت)، (تاريخي بقلمي) لنبوية موسى. أما رضوى عاشور فكانت الكتابة عن الذات بالنسبة لها (لعبة فنية مكنتني ممن كتابة سيرتي بشكل جديد وتتيح نقل تجربتي ووقائع عشتها ووقائع لم تحدث لي شخصيا لكنها جزء من تجربتي). فدونت الكثير من أوراق حياتها بدءا من رحلة دراسة الدكتوراة في أمريكا (الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا) انتهاء بتجربتها المريرة مع مرض السرطان قبل وفاتها في كتابيها(الصرخة) و(أثقل من رضوى).
ربما كان ما دفعني بصورة شخصية للكتابة عن الذات تجربة تعرض ابني في مرحلة من حياته لمرض عظام نادر يصيب الأطفال وهو مرض تنخر العظام أو ليج كالفيه بيرثيز. لسبب غير معلوم توقفت الدورة الدموية عن تغذية رأس عظمة الفخذ الأيمن فبدأت في التفتت مسببة العرج والألم الشديد. تحول حاله وحالي وعجزت عن إيجاد مصادر للمعلومات باللغة العربية فلجأت في رحلة نادرة كالمرض عبر صفحات الإنترنت للمصادر الطبية الأجنبية ومجموعات الدعم. بعد أن خضت التجربة بنجاح وتم التعافي بعد زيارات محيرة للأطباء وقرار تدخل جراحي قررت مشاركة تجربتي لتكون أول كتاب يناقش مرض تنخر عظام الأطفال في الوطن العربي في كتاب(أنا وابني وست أرجل) الصادر عن دار الشروق. وتم نشره باللغتين العربية والإنجليزية ليكون وسيلتي لمد يد العون للناس في كل مكان. دونت التجربة بحلوها ومرها؛ بمشاعر أم طرقت كل الأبواب لتنقذ صغيرها وهي ترسم بسمة وتخفي ألما علها تكون ضوءا في آخر النفق لكل مريض ومبتلى.
تعددت التجارب وتعددت الكتابات لكن يبقى القاسم المشترك بين الجميع هو الصدق والشفافية والسرد الأمين لواقع حدث بالفعل لا مجال فيه للخيال ولا للمبالغة. وعندما يمسك القاريء بكتاب سيرة ذاتية فهو في ميثاق مكاشفة مع الكاتب فبين يديه كما قال المفكر لاروس(حياة شخص مكتوبة من قلبه). وعلى عكس السيرة الغيرية التي تتحدث عن آخرين ولم يكتبها الكاتب بنفسه عن نفسه قد تبرز السيرة الذاتية ووقائعها بعض الأحداث وتتغافل عن بعضها فهي تتناول فترة محددة من حياة شخص وتجربة خاصة تعرض لها فآثر الحديث عنها ومشاركتها مع الآخرين. يمسك القاريء بالكتاب فيجده مكتوبا بصيغة المتكلم فيرى الكاتب مطلا عليه بين السطور حاضرا مبتسما أو غاضبا؛ باكيا أو راضيا مرتبكا أو واثقا ضعيفا أو قويا فيعيش معه الأحداث ويتفاعل معه خطوة بخطوة فتتغير حياته معه ويتشكل لديع وعي جديد.
عندما يقرر شخص ما لسبب أو لآخر الإفصاح عن حياته للآخرين فإنه سيقابل بالرفض أو القبول؛ بالتقدير أو الاستهجان؛ سيعلي بعضهم من شأنه ويستهتر البعض الآخر بما مر به. لكن في معرض كتابته عما مر به تواجه كاتب السيرة الذاتية بعض الصعوبات منها الذاكرة فربما بعد الماضي وخفتت معه التفاصيل. وهو لا يؤرخ إنما يكتب عما شعر به وما حدث له من منظوره الشخصي فوحده القادر على استرجاع الأحداث والذكريات. ثم تواجهه مشكلة أخرى وهي الرقابة الذاتية على ما يخطه. هناك الكثير من المشاعر السلبية والنقائص والمواقف التي يتحرج من ذكرها أو يتجرأ على الإفصاح عنها متوقعا عاصفة من الانتقادات. وتبقى الإشكالية الأكبر وهي تشابك مصيره وأحداثه مع الآخرين فلا يمكنه الحديث عما واجهه بمعزل عن ذكر أشخاص آخرين كانوا حاضرين في المشهد ولهم دور مؤثر سلبا أو إيجابا في كل ما مر به. وهنا يتحرج في الكتابة. عليه أن يكون شجاعا وأن يكون حكيما. احذر منطقة ألغام! يحذره عقله مرارا أثناء الكتابة فيمحو ما يكتب أحيانا ويتغاضى أحيانا أخرى عن ذكر كل التفاصيل ويكتفي بالقليل مما يخل بما يريد قوله ولا ينقل الصورة كاملة. يتحرج الكاتب وتتحرج دور النشر أيضا بدورها مخافة المساءلة القانونية في بعض الأحيان. يحاول الراوي الحصول على موافقة من يذكرهم في حديثه ولا تفلح دائما المحاولات إلا عندما لا يكون هناك ما يشينهم أو يذكر نقائصهم. في سيرته الذاتية(ماذا علمتني الحياة) يقول المفكرالمصري جلال أمين عن هذه المعضلة:(فلما اكتمل الكتاب أعدت قراءته من هذه الزاوية، فكنت أقارن بين النفع الذي يأتي من ذكر الحقيقة كاملة وبين الألم الذي قد يحدثه ذكرها).
تتعدد أسباب الكتابة عن الذات سواء كان الغرض منها البوح أو المكاشفة أو الاعتراف أو مشاركة تجربة تركت أثرها في حياة الكاتب لكن النتيجة واحدة. قرار الكتابة يفتح عوالم قوة للطرفين فباسترجاع الكاتب لما مر به تتفتح أمام ناظريه رؤى جديدة وهي أكسير حياة له وللقاريء الذي لا يمر بالضرورة بنفس المجريات الحياتية لكنه حتما سيجد فيها ما يضيف إلى خبراته. قرار الكتابة عن النفس وعن الحياة الشخصية ليس سهلا. أمنذ الجملة الأولى، خذ الكاتب على نفسه عهدا بالتجرد والتحرر من القيود النفسية والشخصية وأقسم على الصدق وأخلص النية مساعدة الغير. لا يكتب لأنه الأعلم أو الأقدر أو للتنظير على غيره أو التفاخر أو التباهي. يكتب لأن لديه ما يقوله. يكتب لأنه رأى وليس من سمع كمن رأى.
التعليقات