يطوف بنا كتاب "عصر نادي السينما" لأمير العمري الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، متعمقاً في تجربة نادي السينما بالقاهرة، التجربة التي يعتبر المؤلف أنها الأكثر رقياً واكتمالاً بل ورسوخاً من جميع التجارب المماثلة لنوادي السينما، يسرد فيها ذكرياته وانطباعاته الخاصة في تلك الفترة من السبعينيات للقرن الماضي، حينما كان قريباً وملتصقاً أشد الالتصاق بتجربة نادي السينما وكان لا يزال طالباً في الجامعة، وكثيراً ما رجع في كتابه لمجلدات نشرة نادي السينما التي لديه منذ بداية تأسيس النادي لنهايته، حيث كان نادي السينما نافذة مهمة للإطلال على روائع السينما في العالم.
السبعينيات فترة الحراك الثقافي والسياسي
يقول الكاتب: "إني ما زلت أرى أن السبعينيات تحديداً كانت الحقبة الأكثر حيوية، ليس فقط في نشاط نادي السينما، بل في مُجْمَل الثقافة المصرية. ص 6) فالتاريخ يكشف أنه بعد ما وقع في يونيو 1967، لم تعد مصر إلى ما كانت عليه قط، وبدأت أكبر حركة مراجعة في الحياة السياسية والثقافية لكثير من الشعارات والأفكار والقيم التي تم غرسها منذ عام 1952، ولم يكن بالتالي من قبيل المصادفة أن تشهد هذه الفترة ظهور دعوة للسينما الجديدة، ليس فقط في مصر، بل في سوريا ولبنان والجزائر والمغرب وتونس (بعد 1967 أصبح طلاب الجامعات يبحثون عن مصادر جديدة للمعرفة خارج الأطر الرسمية، فأقام الطلاب المنتديات الثقافية. ص 6).
ومن قلب الحراك الثقافي جاءت فكرة نادي السينما، وقد نشأت التجربة أصلاً من داخل الأجهزة الرسمية؛ لامتصاص غضب الشباب واحتواء طموحاتهم التي لم يعد من الممكن تدجينها كما كان في السابق، ولأن نادي السينما في تلك الفترة كان نافذة مهمة للاطلاع على روائع السينما في العالم خاصة عندما تولى الناقد مصطفى درويش مهمة الرقابة على السينما وغيرها، كان مثقفاً منفتحاً على التجارب السينمائية الأوربية، وبالتالي كان لتأثير النادي الأم للسينما في القاهرة أثراً كبيراً على ما حوله، وخرج من معطفه الكثير من النوادي في الجامعات المصرية، والنقابات المهنية، وانطلقت حركة نوادي السينما في الأقاليم، والتي خصَّص لها المؤلف ملحقاً خاصاً من ملاحق الكتاب.
بدايات نوادي السينما
يتعرَّض المؤلف قبل أن يدخل في عمق نادي السينما في القاهرة لبدايات نوادي السينما في العالم (ظهرت فكرة نوادي السينما للمرة الأولى في إبريل 1907 عندما أسَّس إدموند بينوا- ليفي "نادي الفيلم" film club" " في البناية رقم 5 طريق مونانرتر في باريس، وكان الهدف من إنشاء هذا النادي كما ذكرت المعلومات القليلة المتوفرة عنه، هو حفظ كل ما يتعلَّق بالنشاط السينمائي من وثائق ومعلومات وصور، بالإضافة لقاعة عرض للأفلام. ص11) ويسرد تاريخ النوادي عندما أسس المخرج والناقد السينمائي الفرنسي لويس ديلوك أول جمعية سينمائية عام 1918، كما أسَّس ريتشيوتو كانودو عام 1920 جمعية سينمائية في إيطاليا، وكان الغرض من فكرة نوادي السينما منذ بداياتها أن تفتح المجال أمام عرض الأفلام التجريبية والطليعية والكلاسيكيات القديمة ويذكر أن جمعية الفيلم اللندنية هي التي وضعت الأساس الحقيقي الذي قام عليه فيما بعد "معهد الفيلم البريطاني" ويبرز مشروع نادي السينما كمشروع طموح من مشاريع وزارة الثقافة المصرية والذي تأسس في عام 1968 وكان المركز القومي للأفلام التسجيلية قد تأسس في العام السابق 1967.
ومما يذكر في بداية نادي السينما حين أداره الناقد مصطفي درويش أنه واجه الكثير من المتاعب مع ارتفاع ممثلي تيار الاسلام السياسي وما أعلنوه من اعتراضات كثيرة في مجلس الأمة (وقد خذل المثقفون المصريون مصطفى درويش ولم يقف أحد إلى جواره في معركته مع خفافيش الظلام، فأقيل من منصبه. ص 19)
ولما أعلن النادي عن فتح أبوابه في بداية إعلان تأسيسه، تقدم للحصول على عضويته خمسة ألاف عضو، تحت تصور أن النادي سيعرض الأفلام الممنوعة، التي تتضمن مناظر جنسية، وأوضحت الوزارة أن العرض سيكون للأفلام ذات القيمة الفنية الرفيعة، يعرج المؤلف إلى هذه البداية ويذكر الأفلام التي عرضت في موسمه الأول (68-1969) مثل الفيلم السويدي "بيرسونا" أو القناع لبرجمان، والفيلم السوفيتي المدرس الأول من إخراج أندريه كونتشالوفسكي الذي يعد من تحف السينما السوفيتية، ومن الأفلام العربية تم عرض أفلام "الظامئون" للمخرج محمد شكري جميل، ورجال في الشمس لثلاثة مخرجين من سوريا، ورسائل من سجنان، لعبد اللطيف بن عمار من تونس.
ونتابع تاريخ النادي فنعرف أنه بعد استقرار نشاط النادي انتقلت العروض الاسبوعية من قاعة الجامعة الأمريكية إلى دار سينما "أوبرا" في وسط القاهرة، وكانت واحدة من أجمل دور السينما القاهرية.
ولم يظهر نادي السينما الرئيسي في القاهرة عام 1968 من فراغ فقد كان التجمُّع الأول في الخمسينيات، من خلال "ندوة الفيلم المختار" التي أسسها الكاتب المبدع يحيى حقي عندما كان رئيساً لما أُطلقت عليه مصلحة الفنون التي تأسست عام 1955.
وعلى سبيل التأريخ يذكر دكتور ناجي فوزي أستاذ النقد السينمائي بأكاديمية الفنون في كتابه "المركز الكاثوليكي المصري للسينما وخمسون عاما من الثقافة السينمائية" أن البداية الحقيقة للنوادي السينمائية في مصر تعود إلى المؤرخ والناقد السينمائي فريد المزاوي الذي يعتبر الأب الروحي الفعلي لها، فقد أسَّس "نادي الفيلم" بالمركز الكاثوليكي للسينما، ثم بعض نوادي السينما في بعض أحياء القاهرة في عام 1945
بين التيارات الفكرية وقضية الجنس
ثم يدخل بنا الكتاب لمن كانوا يكتبون في السينما في تلك الفترة: سامي السلاموني، سمير فريد، فتحي فرج، ويشرح أن دور الناقد السينمائي في تلك الفترة كان مختلفاً (كان النقد السينمائي في السبعينيات تحديداً، يحاول أن يقوم بدور في تغيير "السينما السائدة " فقد كانت الدعوة إلى "السينما الجديدة" قد اتخذت طابع الهجوم.. وكان نقاد السينما ينقسمون فكرياً لمدرستين، تيار يساري يضم سامي السلاموني وفتحي فرج وسمير فودة ورفيق الصبان، ومصطفى درويش وصبحي شفيق ثم كمال رمزي، وكان هناك ما يمكن اعتباره تياراً يمينياً، أو اقرب إلى اليمين والوسط، يضم : أحمد الحضري، أحمد رأفت بهجت، وسمير سيف، وأحمد راشد وفوزي سليمان، لكنه لم يكن يميناً رجعياً، بل مستنيراً، مثقفاً. ص 47،48بتصرف).
ويشير لما تضمنه عدد مجلة "المسرح والسينما" الثالث في مارس 1968 رقم 51 أن العدد تضمَّن ندوة أقامها وزير الثقافة ثروت عكاشة، ضمت عدداً من السينمائيين والأدباء حول مشاكل الانتاج السينمائي في مصر، وخاصة إنتاج القطاع العام، وتناول أيضاً مشكلة الجنس في السينما المصرية (حدث هذا في الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات التيار المتزمت الذي يتسربل بالدين ويتمسح بالإسلام في أعقاب الهزيمة التي وقعت في 1967، واعتبرها التيار الاسلامي وممثلوه نتيجة الانصراف عن الدين ص 55) والغريب أن مجلس الشعب خصَّص جلسة لمناقشة مشكلة الجنس في الأفلام بتاريخ 21فبراير 1968.، يعلق سعد الدين وهبة" وكانت المصادفة وحدها هي التي جعلت نجيب محفوظ يجلس في مواجهة عضو مجلس الشعب تماماً"، عندما تحدث العضو عن فيلم "قصر الشوق" هاجم مخرجه حسن الإمام هجوماً عنيفاً، واختتم هجومه بقوله "إنه ليس حسناً ولا إماماً، وعندما ذكر مصطفى درويش مدير الرقابة، التفت العضو إلى وزير الثقافة وقال" نريده درويشاً حقيقياً.
ويتضح أن نادي السينما نال من الهجوم الذي ناله فيلم قصر الشوق (تصدى له أحد الأعضاء وهاجمه هجوماً عنيفاً باعتباره مباءة ومفسدة ومكاناً لعرض الأفلام الداعرة، لكن وزير الثقافة دافع عن نادي السينما وصحَّح المعلومات التي علقت في أذهان البعض مما نشر عن نادي السينما. ص 58).
علامات النهاية
كانت علامات زوال النهضة السينمائية تبدو في الأفق عندما أعلن الرئيس السادات في خطاب رسمي أن سياسة التأميم لكثير من الفعاليات والنشاطات لم تعد ملائمة للعصر (وكان من أولى القرارات التي صدرت بعد تولي السادات السلطة تصفية القطاع العام السينمائي ممثلاً وقتها في مؤسسة السينما بعد أن سخر منها السادات بقوله "وهل يجب أن تبيع الدولة تذاكر السينما. ص 44).
وفي مطلع عام 1973 بدأ نادي السينما يواجه مشكلة من الهيئة العامة للمسرح والسينما التابعة للدولة، مطالبة النادي بدفع قيمة إيجار حفلة السينما المخصصة على أساس تجاري بما يوازي ثمانية أضعاف ما كان النادي يدفعه بالفعل (والغريب أن المنتج السينمائي المعروف تاكفور أنطونيان كان يُحَرِّض الهيئة على طرد نادي السينما من مقره، والسبب أن فيلمه "خللي بالك من زوزو" كان قد بدأ يُعْرَض في نفس دار السينما ابتداء من نوفمبر 1972 وكان يحقَّق إقبالاً جماهيرياً كبيراً، ولم يكن الرجل يريد أن يحرمه النادي من دخل حفلة التاسعة مساء الأربعاء!. ص 74).
وكان عام 1973 عام السينما السياسية في مصر فيما يذكر الكاتب أن نادي السينما افتتح العام بعرض فيلم " زائر الفجر" لممدوح شكري في 31 يناير 1973، والفيلم يعبر عن مجتمع الهزيمة، مع العلم بأنه قبل زائر الفجر مباشرة عرض النادي واحداً من أهم وأقوى أفلام السينما الإيطالية "انتهى التحقيق المبدئ.. انس الموضوع" للمخرج داميانو دامياني، فلم يتوقَّف النادي عن عرض الأفلام السياسية في مرحلة شديدة السخونة في مصر، وسيعرض النادي بعد ذلك واحداً من أهم وأقوى الأفلام السياسية على الإطلاق "قضية ماتيه" لفرنشيسكو روزي رائد التيار السياسي في السينما الإيطالية، كما يشير الكاتب لفيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي بعنوان منفصل "عام الرصاصة".
وعند منتصف السنة العاشرة من عمر النادي 1977 بسبب السياسة الجديدة التي اتبعها الرئيس السادات، فتوقَّف انتاج الأفلام بواسطة الدولة مباشرة، وارتفعت نفقات النادي وظهر عجز واضح في الميزانية، ولم يستطع النادي تبادل الأفلام مع نوادي السينما في دول أخرى؛ (لأن النادي لا يملك أرشيفاً للأفلام يمكنه أن يتبادل محتوياته مع تلك النوادي. ص182)، وفي عام 1993 انتهت رحلة النادي.
رحلة شيِّقة يقطعها كتاب عصر السينما، ما بين النشرات الدورية، وعرض الأفلام، ونقدها، وعلاقة ذلك بالظروف التي مر بها المجتمع، كما يتوقَّف أمام عدد من الظواهر السينمائية، والأفلام، والشخصيات السينمائية المهمة، فتخرج مع نهاية الصفحات بجرعة سينمائية مشبعة.
التعليقات