لم يختلف أحد على وجود هذه الصفة في شخصية جمال عبدالناصر وصفها مؤيدوه بحب السلام، ووصفها معارضوه بالضعف والانهزامية، وكلاهما يؤكدان حقيقة عدم تفضيله للحرب كخط دفاع أول.
بداية تعارفنا معه كانت مع ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، حيث الانقلاب العسكري الذي قام به تنظيم الضباط الأحرار للإطاحة بالملك فاروق. طالب وقتها التنظيم بمحاكمة الملك وإعدامه، لولا رفض جمال عبدالناصر مبررا رفضه للتناقض الموجود في الطلب نفسه فإذا سبق وأن قرروا إعدامه فأي داعٍ للمحاكمة، مناديا بالسلام مبررا أن الدم لا يجلب سوى الدم وهذا ليس بالهدف المنشود للثورة.
في حين أنه كان رجلا عسكريا؛ لكنه لم يفضل الحرب قط بل ولم يتوقعها من غيره، فعندما كان العالم يرج بالأخبار التي تؤكد قيام بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بعدوان على مصر لم يصدق وفوجئ وحده بعدوان ١٩٥٦، حيث استقبل الجميع الخبر بأريحية لتوقعهم مسبقا، وانتهى العدوان بلا حاجة لدخول حرب أو حتى الدفاع لانسحاب القوات الثلاثة المعادية بتهديد من الولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل في الحرب.
ولكن هل كان حبه للسلام مانعا لنجدة من استغاث به في حربه؟! عندما قامت ثورة اليمن ١٩٦٢، استغاثت الثورة الوليدة بمصر لمساندتها لنيل الاستقلال، وسرعان ما أقر الرئيس الأسبق محمد أنور السادات الذي كان وقتها المسئول السياسي عن الشؤون الخارجية لمصر إلزامية تدخل مصر عسكريا فورا لنجدة ثورة اليمن فلا مجال لتردد أو تفكير في القيام بالواجب القومي باعتبار مصر وقتها المثال المحتذى به لدعم حركات الاستقلال ونيل الحرية بأي ثمن، وتمت الموافقة من قبل الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر وتم التدخل عسكريا مع سعيه المستمر لإنهاء تلك الحرب الأهلية التي نشأت نتيجة للثورة.
وتكرر الأمر في ١٩٦٧، عندما أرسلت سوريا إلى مصر بعد تهديد بالحرب جاءها من إسرائيل، فبدأ جمال عبدالناصر فورا في حرص وبعد تفكير بالسعي لحل الأمر قبل أن يصل إلى المعركة أي اللجوء للحل السياسي قبل الاضطرار إلى الحل العسكري، وسرعان ما تحولت وجهة القوات الإسرائيلية من سوريا إلى مصر وأصبحت الحرب على الأبواب، فكان عبدالناصر يتراسل مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع فرنسا للتدخل وحل الأزمة قبل وصولها إلى حرب ووعدوه بحلها حيث طلب منه ديجول رئيس فرنسا آنذاك عدم البدء بالضربة الأولى ووعده عبدالناصر بذلك، ولكن جاء الغدر فجأة بضربة جوية ناجحة من إسرائيل في يوم ٥ يونيو ١٩٦٧، تبعها قرار انسحاب قوات الجيش المصري من سيناء في صباح ٦ يونيو، وقيل أن هذا القرار خرج ونُفذ بدون علم عبدالناصر حيث كان المسئول العسكري وقتها هو المشير عبدالحكيم عامر، والذي قام الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر بعزله من قيادة القوات المسلحة وتنصيبه نائبا لرئيس الجمهورية وهذا ما اعتبره عبدالحكيم عامر إهانة له، ثم تم القبض عليه بتهمة التآمر ومحاولة قيادة انقلاب عسكري للإطاحة بعبد الناصر وتم وضعه تحت الإقامة الجبرية إلى أن تم إعلان وفاته مسموما في ١٣ سبتمبر ١٩٦٧.
بعد نكسة ١٩٦٧، تغير الأمر بالنسبة لعبدالناصر فلا مجال لحل سياسي فهذه حرب بدأت بمعركة ولن تنتهي إلا بمعركة فما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، وبمساندة الاتحاد السوفييتي الذي سبق وأن رفض عبدالناصر معاداته بلا سبب، استطاع أن يغذي الجيش من جديد بالعدة والعتاد، وفي عدة شهور فقط كان الجيش المصري جاهزا للمعركة مرة أخرى لتبدأ حرب الاستنزاف في ١٩٦٩ والذي يعتبرها الكثير من رجال السياسة المعركة الرابعة في الصراع العربي الإسرائيلي.
ما أسهل على الرجل العسكري أن يأمر بشن الحرب! فهذا مجاله واختصاصه الذي تبرز فيه مهاراته وقدراته، ولكن ما أسهل الحرب على القائد وما أصعبها على الشعب، ففي الهزيمة يوجد ضحايا وفي النصر يوجد ضحايا، ولكن يكمن الفرق في الحزن ففي الهزيمة يحزن الجميع وفي النصر يحزن أهالي المفقودين، والحزن بين الفرح هو الأصعب، شعور أحدهم أنه قدم ابنه قربانا للنصر، تضحية فداء لباقي الشعب، امتزاج الإيلام بالفخر، الصرخة بالهتاف؛ فمن أجل هذا، من أجل هذا الأب وهذه الأم لو كان من الحرب مهربا واختارها لكان آثما، فشعوره بالمسئولية التي تقتضي حماية شعبه كله وعدم التضحية بشبابه هو ما جعله مقربا إلى القلوب، هو ما جعل من الشعوب محبين له في الهزيمة قبل النصر.... لهذا هو جمال عبدالناصر.
التعليقات