قرأت اليوم تلك العبارة: {إذا قدر لك أن تنجو من الطوفان فتقبل أن يخيفك الماء للأبد}.
منذ حوالي خمسة وعشرين عامًا أصابتني مشكلة في عيني، حدث إنفصال للجسم الزجاجي عن الشبكية دون حدوث انفصال شبكي ولله الحمد.
ترتب على ذلك أنني أصبحت إلى اليوم أرى من خلف خيالات مثل العنكبوت الأسود المتشعب الذي يسبح في أمواج من الرمال السوداء في ظاهرة طبيّة تعرف "بالذبابة الطائرة للعين".
ثم لحق ذلك اكتشاف إصابتي بالمياه الزرقاء وضعف العصب البصري في واحدة من أندر حالات ضعف الإبصار في العالم حسب كلام الطبيب.
بقيت سنوات أصارع لأرى بوضوح حتى تعذر ذلك تمامًا واستسلمت لفكرة أنني سأظل أرى الدنيا من مطل يزعجني.
تجاهلت ما حدثني به طبيبي أن عليّ أن أتجاوز شعوري بأني لا أرى حتى يستجيب عقلي فيسقط عنه تلك الخيالات المزعجة ويتجاهلها.
اخترت التقدم بالطريقة الصعبة، ظللت لأشهر طويلة أعاني وحدي تأثير ضعف الرؤية، وسط كل التزاماتي بتربية أبنائي واستذكار دروسهم وتحضير رسالة الدكتوراة.
كنت أصر على رؤية ما يزعجني، حتى أصبحت قادرة على رسم هذا العنكبوت البائس وأمواج الرمال السوداء اللعينة تلك.
ظللت أتساءل كيف سأكمل رحلتي ولدي نصف رؤية ونصف وضوح ومن ثم نصف احتياجي لأسير وأعمل واستمتع؟
من أقوى أسباب نجاحك أن تكون شخص قادر على أن تصادق نفسك، تمتلك القدرة على إقناعها ولا تتركها تستسلم.
كل مصير مظلم يمكنه أن يتحول لمنارة تتكئ عليها في أشد اللحظات ظلمة في حياتك. جل ما تحتاج إرادة حديدية، نفس لا تلين، صبر بلا حدود، وانتظار العوض الجميل.
شرعت أتقبل أقداري!!
فعلت ذلك بدأب وعن كامل اقتناع. بعد بضع سنوات قليلة جدًا تجاهل عقلي تلك الخيالات السوداء واستسلمت تمامًا لفكرة أني لن أرى أبدًا بوضوح، ورغم ذلك فهذا لن يزعجني بعد اليوم!
تعلمت كل الاحتياطات التي تمكنني من السير ليلا وحدي. استعضت عن الرؤية باستخدام حاسة السمع وأحيانًا اللمس في حالة تنظيف منزلي بالمكنسة الكهربائية عوضًا عن رؤية الأرض التي أصبحت مستحيلة.
أجدت حفظ الطرق ومطبات الطريق وتعليم الأماكن بوسائل لا تعتمد على الرؤية بل على قوة الذاكرة مختزنة حجم الاشياء ومواقعها وليس تفاصيلها.
لم يكن الأمر يسيرًا أبدًا، كنت كثيرًا ما أتعثر أو أقف بسيارتي عاجزة عن إكمال الطريق، ونعم بكيت كثيرا إلى أن أتى اليوم الذي تجاوزت كل ما سبق وأخذت ثأري من ضعفي وتحول العجز إلى منتهى القوة والجمال.
لو سألتني اليوم يا صديقي عن شعوري، سأجيبك بأن هذا الضعف كان أفضل ما حدث لي في حياتي.
تعلمت من خلال المحنة قوة الإرادة وفضل الاعتماد على النفس. أدركت جيدًا أنني لازلت أرى كل شيئ بمنتهى الوضوح ولكن من خلال عزيمتي وقوة بصيرتي.
لعل أسوأ ما في اعتيادنا النعم أننا لا ندرك قيمتها وننسى أن نحمد الله عليها حتى يجيء اليوم الذي نفقدها للأبد.
اليوم أحمد الله على سنوات وضوح الرؤية، وأحمده أكثر على سنوات ضعف الرؤية والتي اكتسبت من خلالها القوة والبصيرة وصلابة العيش.
لم أعد أخجل من ضعف إبصاري، بل أفتخر بقدرتي على تجاوز ذلك لأكثر من ربع قرن من الزمان.
لقد نسيت كيف كنت أبصر، لكني تعلمت كيف اتكيف وأتعاون مع ضعفي وأُصادقه؛ وهذا لعمري ما أبقى عليّ نجاحي وأدام استمراره.
عزيزي لن تنال كل ما تتمنى، بل ستنال أضعافه شريطة حسن إقامتك في الحياة.
أفضل ما يمكننا أن نفعله في دنيانا هو أن نظل ضيفًا خفيفًا فيها، يجلس في هدوء، يأخذ ما يقدم له، يستمتع بخيره ويرضى حتى يأتي وقت الرحيل.
تعرف الأنفس من خلال المِحَن، لكنك لن تعرف يومًا مدى قوتك إلا وأنت تجاهد المصاعب بدأب وتداعب وحشة التجربة ومُر استمرار المحاولات.
هكذا دنيتنا يا صديقي، كلٌ يمر على صِعَابه، وتظل إرادة الله دوما تخدم مصلحتك.
لا تخن نعمك، فهي دليلك الآمن على جودة البقاء وحسن الخاتمة.
أن تعيش يعني أن تختبر أمور كثيرة بعضها لن يعجبك، وأن تنجو يعني إنك لم تتقاعس وأنجزت دورك كما توجب عليك.
شعورك بعدم الرضا هو إنذار لك من الله بأنه يجب عليك أن تتغير.
تسلق مخاطرك كفارس نبيل يدرك كيفية الفوز في مضمار السباق.
المآسي تتسبب في تغيرات جذرية في حياتنا، لكن تلك الخسائر هي التي تمكنك من مليء الحيز الواسع المنفتح أمامك، فتتحول كل خسارة تصديت لها إلى منفعة مستحقة.
لذا … أفضل أرزاقك هي تلك المستحقة عن كد.
إرادتك هي ما تكفل لك جودة التقرب إلى الله لتنال من خلاله السند الدائم والظهر المستقيم.
أحيانًا نسعى لتجنب الألم عوضًا عن التعامل معه والتعلم من خلاله، ما لا يمكن علاجه يجب عليك تحمله والتَصَبُر عليه.
الآن … نعدل العبارة سويًا: {إذا نويت أن تنجو من الطوفان فاحرِص (ألا) يخيفك الماء (أبدًا)}.
التعليقات