من بعيد، يركض الشاب المذعور في جُنْحِ الليل، عابرا الشوارع الخلفية لضواحي باريس هاربًا من الأشباح، هارعًا إلى المجهول.
تلوح في الأفق دائرة ضوء صغيرة تشق الدجى مسرعةً نحو الشاب إلى أن تتجلى دراجة نارية تحمل شبحين مُتَّشِحَين بالسواد.
يلمح الشاب بابًا مواربا لبناية سكنية فيدلف إلى مدخلها. يسال أحد العابرين العون كي يُحْكِمَ إغلاق الباب. لكن قبل أن يتم فعلته، يقتحم رجلان في زي قوات مكافحة الشغب البناية لينهالا على جسد الشاب المسكين بهراوات غليظة حتى يلفظ أنفاسه رغم توسلاته وتوسلات عابر السبيل بالرحمة!
ستعرف فرنسا والعالم فيما بعد اسم هذا الشهيد جيدا "مالك أوسكيني" بعدما يغدو أيقونة مظاهرات طلاب فرنسا الشهيرة عام 1986.
مشهد كلاسيكي شاهدناه كثيرا في أصقاع الأرض قاطبة وفي باريس تحديدا على مر الأزمنة. أزمة انتفاضة الطلبة ضد حرب فيتنام في 1968. ثم أزمة الطلبة الثانية ضد قانون المنح الجامعية 1986 ثم عام 2005 ومؤخرا في مطلع العام الحالي 2023 مظاهرات العمال احتجاجا على مشروع قانون لتغيير سن المعاش دعا له الرئيس الفرنسي ماكرون.
التقط المخرج الفرنسي ذو الأصول الجزائرية "رشيد بوشارب"قصة"مالك" ليجعل منها محورا لفيلمه المهم "Nos frangins"أو"إخواننا" الذي عُرِضَ في نهاية عام 2022.
يسلط الفيلم الضوء على مأساة "مالك أوكسيني" و"عبدل بن يحيى" الذي توفي نتيجة رصاصة طائشة أطلقها شرطي مخمور في حانة دون داع!
تشاء الأقدار أن كلا الشهيدين من أصول مغاربية وأن كليهما لم يشارك في المظاهرات، لكنهما دفعا حياتهما نتيجة تواجدهما في المكان الخطأ بالزمن المشؤوم!
رشيد من أبناء الجيل الثاني من المهاجرين المغاربة. وُلِدَ في باريس لأبوين جزائريين. بقيَ وفيًا طوال مسيرته السينمائية الحافلة لقضية معاناة الأقليات المغاربية والأفريقية في فرنسا.
ارتكز رشيد هذه المرة على التاريخ وتحديدا أزمة 1986 المفصلية العاصفة في تاريخ فرنسا التي أسقطت الحكومة ورئيس الوزراء وقتها "جاك شيراك" وغيرت هيكل ونهج وزارة الداخلية الفرنسية إلى الأبد.
اعتمد رشيد بدءأ بالمقدمة على العرض المكثف لمواد أرشيفية من فيديوهات وحوارات وصور قديمة عن الأزمة. تسافر بك المقدمة حرفيا إلى منتصف الثمانينيات في قلب العاصفة.
نجح رشيد ببراعة في دمج مشاهِدَهُ السينمائية المُصَوْرَّة حديثا مع المادة التاريخية لتلتحم في نسيج واحد ذو طابع شبه وثائقي يذكرنا بكلاسيكية "أوليفر ستون"الخالدة"جي إف كيه" حين يصبح السؤال المتكرر للمتفرج أي المشاهد مُصَوَّر حديثا وأيها تسجيلي من الأرشيف؟
ذلك يستدعي مهارة خاصة في التحكم في تفاصيل الكادرات ليس فقط من ناحية المونتاج والأزياء وقصات الشعر المعاصرة لزمن الأحداث، بل أيضا من ناحية اختيار درجة اللون المُهَيْمِن على الصورة والمرتبط ذهنيا في "لا وعي" المُتَفَرِّج بالصورة الأرشيفية لحقبة الثمانينيات.
أما على مستوى السيناريو نجح الفيلم في مزج ما هو عام بما هو شخصي. كما كان اختيارا دراميا ذكيا، الا تُقَّص الحكاية من عيون بطليها "مالك" و"عبدل" بل من عيون من أحبوهم من الأسرة والأصدقاء. خلق السيناريو حافزا قويا لاكتشاف كافة التفاصيل الإنسانية عن حياة الأيقونتين.
في البدء نشاهدهما جثتين مجهولتين في مشرحة حين يبدأ عامِلُهَا ذو الأصول الإفريقية "عثمان" في إقامة حوار نبيل معهما وكأنهما ما زالا على قيد الحياة.
يمنحهما اسما عزيزا على قلبه ثم يتلو صلاة على روحيهما تبدو مستقاهَ من مناسك ديانة وثَنِيَّة تعتنقها قبيلته الأصلية في إشارة رقيقة إلى وحدة الالم الإنساني رغم اختلاف الجذور والإثنيات والعقائد ولون البشرة. كلنا في الالم سواء.
نتتبع رحلة اكتشاف أسرتي مالك وعبدل لتفاصيل المأساة في خطين متوازين.
والد عبدل "سمير جوسيمي" الذي تستدعيه الشرطة لاستلام إبنه "شقيق عبدل الأصغر" بعد تورطه في مضاربة بحانة. لا تبلغه السلطات حقيقة مصير عبدل لكنها تؤكد له أنه في أيد أمينة تتولى علاجه وسوف تتواصل معه قريبا!
أما على الطرف الآخر، تحاول بالمثل سارة "لينا خضري"ومحمد"رضا قاطب" العثور على شقيقهما مالك الذي حضر حفلة جاز بملهى ليلي مع أصدقائه لكنه لم يُرَ أبدا بعدها.
تتكشف لنا تدريجيا ملامح شخصيتي مالك وعبدل.
قصص عشقهم، أحلامهم، الامهم، أسرارهم وأيهما أراد تغيير دينه لينمدج في المجتمع الفرنسي الكاثوليكي؟
في مفارقة مقصودة، نرى سارة على علاقة بجندي فرنسي منخرط "بحكم عمله" في فض المظاهرات ليصبح مصير علاقتهم أمام معضلة الحب عند مفترق طرق السياسة.
جاء الأداء التمثيلي قويا ومُقْنِعَا ًمن كل أبطال العمل.
جوسيمي وقاطب ولينا تالقوا في أدوار صعبة لشخصيات تواجه كارثة إنسانية مفجعة. خصوصا جوسيمي الذي كَّثَّفَ انفعلاته دون مبالغة خصوصا حين وصله الخبر المشؤوم عن مصير إبنه. ذلك المصير الذي أيقنه منذ البداية لكنه أنكره عامدا حتى تأكدت الفاجعة.
اشتملت الموسيقى "المصاحبة" على اختيارت متنوعة جريئة من كلاسيكيات الروك التي تجسد روح الثمانينيات مع كلاسيكيات الموسيقى الشرقية المتناقضة مع طبيعة ومكان الحدث في تضاد مقصود.
في نهاية الفيلم نشاهد بأسى حوارا تسجيليا حقيقيا لعبدل "قبل استشهاده" أدلى به لإحدى البرامج الاجتماعية يتحدث فيه عن انفتاحه على الثقافات الأخرى ورغبته في التعرف على الآخر!
ثم نشاهد حوارا تسجيليا لشاهد العيان أو عابر السبيل الذي حاول الدفاع عن مالك بلا جدوى!
شاهدنا في عام واحد احتراق باريس سينمائيا في فيلمين "أثينا" الذي تحدثنا عنه سابقا و"أخواننا".
رغم أن كليهما سلط الضوء على شرارة العنصرية المتجذرة في المجتمع الفرنسي. لكن في أثينا، شاهدنا الأزمة بحس الملاحم الإغريقية من خلال حي وأزمة تخيلية. أما هذه المرة تناول رشيد الأزمة من مدخل شبه وثائقي لأزمة سياسية إنسانية حدثت بالفعل منذ 37 عامًا.
في كلا الحالتين نرى عاصمة النور تحترق على شاشة السينما بينما تعاني فعليا على أرض الواقع.
هذا هو جمال الفن حين يمنحنا أفاقا متعددة وزوايا متباينة لنفس الرسالة فتتسع الرؤية ويَثْرَيَ الوعي وربما نتستشرف المستقبل!
التعليقات