مع التراكم العظيم الذي تشهده شبكة الإنترنت يومًا بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، لأخبارنا ومشاعرنا ومؤلفاتنا وصورنا وفيديوهاتنا، سنجد أننا أمام مكتبة ضخمة أو مدفن ضخم للوثائق التي تصف حياتنا بدقة. وسوف يستطيع أولادنا وأحفادنا الدخول على صفحاتنا ومواقعنا الشخصية لمعرفة كل شيء عنا وعن حياتنا.
سيقول الحفيد إن جَدى كان شاعرًا أو كاتبًا أو مصورًا أو فنانًا أو مهندسًا أو سياسيًّا.. الخ. وسوف يدخل على صفحة جدِّه، ويجلب منها ما يشاء من ذكريات سواء للتسلية أو البحث عن معلومة ما عن هذا الجد وعصره، سيكون الحفيد وجها لوجه مع جده الذي توفي منذ سنوات قريبة أو بعيدة.
وربما لن نحتاج إلى وجود مؤرخين وكتابة روايات تاريخية لأن التاريخ نفسه سيكون موجودًا أو حاضرًا بيننا بكل تفاصيله الإنسانية والدرامية، وعلى الرغم من موت الجد منذ عشرات السنين فإنه سيكون حاضرًا بيننا من خلال أفكاره وصوره ومشاعره المختلفة التي نستطيع أن نرصدها بسهولة من خلال صفحته.
أما الذين يمتنعون عن خوض تلك التجربة في التعامل مع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي حتى الآن، فلن يكونوا موجودين في المستقبل، ولن يعرف عنهم أحفادهم شيئًا إلا كما يعرف شاب من مواليد 1980 عن جده الذي هو من مواليد سنة 1900 أو الذي توفي سنة 1950 على سبيل المثال، وخاصة إذا كان ابنه (الذي هو والد الحفيد) لا يعرف كثيرًا عن أبيه.
إن نشر ذكرياتك الآن على شبكة الإنترنت تجعل أحفادك يتواصلون معك ويتعرفون على عالمك وعلى المواقف الصعبة أو الحاسمة أو الجميلة والمبهجة التي كنتَ تعيشها، ومن ثم يتواصل الرباط العائلي المقدس، أجيالا وراء أجيال.
يقول العالم الإميركي من أصل ياباني ميشيو كاكو في كتابه "مستقبل العقل" ربما سيسمح لنا تسجيل ذكرياتنا وتخزينها وتحميلها على تسجيل الماضي وإتقان مهارات جديدة.
وقد تعتقد أن مسألة نشر بوست أو الكتابة على صفحتك بالإنترنت أو في مواقع التواصل الاجتماعي يخصك وحدك، ولكن ستجد في المستقبل أن كل حرف تكتبه وكل صورة أو قطعة موسيقى أو لوحة أو شيء تنشره على صفحتك سيصبح في النهاية ملكا لآخرين، وذلك لو نجح العلماء والمستقبليون أن يقوموا بنسخ كل ما في شبكة الإنترنت والتي يبلغ حجمها حاليا واحد زيتا بايت تقريبا (أي واحد مع واحد وعشرين صفرا بعده) مع ملاحظة أن الألياف الضوئية يمكنها أن تحمل تيرا بايت (واحد مع اثني عشر صفرا بعده) من البيانات فى الثانية الواحدة.
في روايتي «زمرد» - وهي من روايات الخيال العلمي - أصبح الحجر الكريم «زمرد» على درجة عالية من الوعي، فاقت درجة وعي عالمة الفيزياء الدكتورة منال عثمان التي تحمل فص الزمرد في خاتمها، وتمد الحجر الكريم بالكثير من الوعي والطاقة الحيوية.
لقد امتلك «زمرد» شبكة دماغية تفوق شبكة الإنسان نفسه، تستوعب كل ما في شبكة الإنترنت من تفاصيل ودقائق، واستطاع العلماء أن يقوموا بعمل عدة نسخ من دماغه ويحمِّلوها على عقل قرد وعقل إنسان آلي (إنسالي) وعقل مريض عقلي، وعقل إنسان سوي.
قد تصبح ذكرياتك ومعارفك وصورك وكلماتك وأخبارك .. الخ في عقل قرد مثلا أو داخل عقل روبوت، ومن خلال محركات البحث السريعة سوف نصل إلى أعمالك وكلماتك وذكرياتك الموجودة على الشبكة، مهما كان حجمها سواء كانت متناهية الصغر أو لا متناهية الكبر.
بل قد يتعدى الأمر الكرة الأرضية بكاملها، وتصل أخبارك وذكريات ومعارفك وصورك وكلماتك .. الخ إلى فضاءات أخرى. إن القوة التي ظهر عليها «زمرد وبما أنه يكتسب وعيا جديدا في كل لحظة، ستودي إلى أن تزيد قدرته على تخزين المعلومات وضغط البيانات وحزم الأشعة الليزرية أضعاف أضعاف ما هي عليه الآن، طبقا لقانون مور الذي ينص على أن «عدد الترانزستورات الموجودة في شريحة معالِج دقيق يتضاعف كل عامين تقريبًا، ما يعني تضاعف أداؤها أيضًا».
ولكن مع التطور السريع الذي نعيشه حاليا قد يكون الأمر مختلفًا، وخاصة إذا توصلنا إلى إنترنت بلا كهرباء، أو اعتمدنا على طاقة البطاريات طويلة الأجل، حيث تعمل الأجهزة المحمولة لفترات طويلة باستخدام طاقة بطارية صغيرة جدا، أثناء التفاعل مع الأجهزة المحيطة والمستخدمين؛ إذ تقوم الشرائح الإلكترونية في أي هاتف ذكي بإرسال واستقبال إشارات للمكالمات الصوتية والإنترنت اللاسلكى (Wi-Fi) والبلوتوث ونظام تحديد المواقع العالمى (GPS)، مع استشعار اللمس والتقارب والتسارع والمجالات المغناطيسية، وحتى بصمات الإصبع. مما يعني أنه فى المستقبل القريب، سيستغرق أمر إرسال شعاع إلى الفضاء حاملا المعلومات كلها الموجودة في دماغك أو دماغ «زمرد» أو جهازك الشخصى عددا قليلا من الساعات.
وبعيدا عن المسائل الأخلاقية، ومن يملك حق نشر ذكرياتك أو حجبها، فإنه يجب الحرص كل الحرص عند وضع أي شيء على الشبكة لأننا لا نعرف إلى أين سيصل هذا الشيء، وكيف يراه الآخرون. وما المشاعر التي سيتعاملون بها مع هذا الشيء، مع أن هذا الإجراء سيكون ضد طبيعة الحرية الكاملة التي تتيحها شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في الوقت الحالي. ولتكن صورتك أمام حفيدك بعد سنين ناصعة وجميلة ومؤثرة ليفتخر بك ذلك الحفيد، ويقول: "هذا هو جدي وتد العائلة .. وسر نبوغها".
التعليقات