أنا محارب قديم.. وفي مقتبل شبابي وفقني الله في خطبة فتاة جميلة صاحبة أخلاق حميدة تربت في عائلة متدينة، وقد تمت إجراءات الزواج بسلاسة، وبعد عقد القران فكرت كيف اقضى شهر العسل؟ بل تساءلت هل لا يزال هذا العسل شهرا كاملا ؟ واذا بي أجد نفسي أقضي كل سنوات عمري عسلا متصلا فعشنا معا 45 عاما كلها حب ورومانسية، لم يعكر صفونا إلا أمر واحد كان صعبا جدا ولكني اجتهدت لكي نتغلب معا عليه.
اشعر بأنك تسأل في نفسك عن المشكلة، فلا تستعجل يا سيدي، سأروي لك القصة كاملة ولكني قبل ذلك علي أن اعترف بقدر المحبة والتقدير الذي يحظى به بريد الاهرام وبخاصة «رسالة الجمعة»، لذلك حرصت ان أقدم من هذا المنبر لزملائي القراء، (الرسالة – التجربة) وفي الوقت نفسه انتظر بشغف (الرد - الإجابة) وما يحمله من نصائح وحكم وحلول اعتدنا عليها في بريد الجمعة ،ونعتبرها زادا ثقافيا وفكريا يعيننا على تحمل رحلة الحياة.
ولنبدأ القصة من أولها:
منذ بداية زواجنا نشأت بيننا ألفة وود ممتد وتوافق حرصنا على الحفاظ عليه، بعد ان تذوقنا جمال الحياة الزوجية الهنيئة، وعلى الرغم من أن حياتي الوظيفية صعبة وصارمة فإنى حرصت على ان يكون عش الزوجية (استراحة محارب) وفي الوقت نفسه كنت اجتهد في عملي لكي اوفر احتياجات بيتنا، وكانت زوجتي تحرص على توفير سبل الراحة لي، فهي إنسانة صاحبة أخلاق حميدة ولديها ذوق رفيع في كل شيء، واستطيع ان أقول بثقة إنها بمائة رجل، وبالفعل عشنا أحلي سنوات العمر بكرمها ولطفها، ولم يكن يشغلها شيء إلا مسألة الإنجاب، حيث مضت سنوات ولم ننجب، وتحت الحاح غريزة الأمومة، ورغبة الأهل في (الفرحة بأبنائنا)، بدأنا رحلة العلاج المضنية وذهبنا إلي أطباء متخصصين في أمراض الذكورة وأمراض النساء وقمنا بإجراء كل الفحوصات والتحاليل اللازمة، وتم عرضها على الأطباء واجمعوا على أنه لا يوجد لدينا شيء يمنع الحمل، عاودنا الكرة مرة أخرى مع أطباء آخرين، ولكن تلقينا نفس التوصيف، فاتفقنا علي عدم الذهاب إلي الأطباء وإضاعة الأموال هباء منثورا، وحمدنا ربنا علي أننا نعيش مع بعض وبيننا كل هذا الود والمحبة . وقلنا يفعل الله ما يريد وكل شيء بأمر الله. وعندما كنت ألاحظ مسحة حزن في عيني زوجتي، أمازحها قائلا: «ولاد أيه يا ستي .. النهاردة الولد بيقتل أمه وأبوه».. وبعد فترة هدأت تماما وفوضت الامر لله، لأنها كانت مؤمنة إيمانا قويا بأن الله لا يريد إلا الخير، وشعرنا بالرضا وأصبحت مسألة الانجاب تكاد تكون محصورة في الدعاء بالذرية الصالحة، خاصة أن زوجتي تقرأ القرآن بشكل مستمر وتصلي الفجر حاضرا وظلت في كل الأوقات تواصل الدعاء أن ينعم الله علينا بالخلف الصالح.
والحقيقة: حظيت - بأخلاقها وكرمها - بحب واحترام كل من أحاط بنا، فقد كانت خيرة مع أهلي وجيرانها، وكان أخوتي وزوجاتهم وأولادهم يحبونها حبا جما، فهي تعتبر أبناء أخوتي بمثابة أولادها وتحرص على شراء الألعاب الغالية والجميلة لكل واحد منهم في عيد ميلاده.. هي إنسانة تعشق حديثها فقد انعم الله عليها باللباقة وحسن الخلق.
وعلى الرغم من تقدير أهلي وحبهم لها، فإنهم ألحوا علي للزواج من أخرى لكي أنجب ولدا يحمل اسمي ولكني رفضت ذلك تماما، لأنني أحب زوجتي جدا ولا أستطيع الاستغناء عنها حتي آخر يوم في عمري، فكيف أكسر بخاطر الإنسانة التي أعشقها وأعيش معها أجمل أيامي؟
وهكذا مضت بنا الحياة وكل يوم تقربنا من بعض اكثر، وفي محاولة لإشباع غريزة الأمومة قام شقيقها بإرسال ابنته وهي طفلة عمرها سنتان لكي تعيش معنا وتعتبرها مثل ابنتها، وتربيها بمعرفتها وظلت هذه الطفلة معنا ودخلت المدرسة الابتدائية ثم الإعدادية ثم الثانوية وبعدها التحقت بالجامعة، حتي تخرجت فيها . والغريب أن زوجتي دخلت المستشفى للعلاج من مرض فيروس C حينما كانت هذه الفتاة تمتحن في البكالوريوس، ويوم النتيجة توفيت زوجتي، إلي رحمة الله تعالي. تاركة فراغا كبيرا وحزنا عميقا داخلي، وقد رجعت الفتاة إلى والدها بعد انتهاء سرادق العزاء، لأنها لا يجوز أن تظل معي بعد وفاة زوجتي.
وقضيت بعد رحيلها، رحمها الله، سنوات صعبة عشت فيها وحيدا حتى اصبح عمري 69 عاما، فزاد احتياجي لمن يدبر لي أمور بيتي وشعرت أسرتي بما صار إليه حالي، ثم بدأوا يبحثوا لي عن زوجة ولكن كل عروسة يختارونها ترفض لكبر سني، حدث ذلك 5 مرات . وقد كان اكثر شخص متحمس لذلك هو ابن خالتي، فقد ذاق مرارة الوحدة بعد رحيل زوجته الى ان تزوج من فتاة قروية، وفي يوم عرض علي الزواج من فتاة عمرها 21 سنة قريبة زوجته، فرفضت على الفور، لأن الفرق بيننا 48 عاما، ولكني فوجئت بأنها موافقة على الزواج فضلا عن موافقة أهلها أيضا، حاولت البحث عن سبب لرفض الزواج فقلت لن اغير الشقة ولن اشترى عفشا جديدا فقبلوا بذلك. توكلت علي الله وتقدمت بالشبكة ودفعت المهر المطلوب وفي خلال يومين كتبنا الكتاب وتم الزفاف قبل شهر رمضان عام 2014 بيوم واحد. والحمد لله حدث قبول وتوافق بيننا، وفي عام 2015 أنجبت (محمد) وبعدها بثلاث سنوات أنجبت (مكة) وعمرها الآن ثلاث سنوات ونصف السنة، والاثنان أدخلا علينا البهجة والسرور رغم الشقاوة والعفرتة معي، حيث يمتطيان ظهري أثناء الصلاة، وبخاصة مع تقدم سني، فقد بلغت من العمر أرذله ( 78 عاما)، ومع ذلك فإني لم انس فضل زوجتي الراحلة، فمازلت اتذكرها بكل خير، وعندما تأتي سيرتها العطرة تنساب دموعي بدون وعي.
من حقك ان تسألني :لماذا اسرد لك قصتي؟ والإجابة تكمن في حرصي على تقديم النصيحة لكل زوج وزوجة لم ينجبا.. وأقول لهما أن ربنا لن ينساهما أبدا.. وسوف يعطيهما وسوف يكتب لهما الخير، وانصحهما بأن يسعيا في الانجاب ولكن لا تربطما سعادتكما بوجود الأولاد، فالحياة يمكن تقبلها بالرضا والمودة ، وبعد ذلك سوف يعطى لنا الله ما يرضينا .والله علي ما أقول شهيد .
ولكاتب هذا الرسالة أقول:
يا سيدي قد جمعت بين الرضا والقناعة والوعي والسعي فنلت الجائزة، وفي هذه الرسالة لا يكون دوري البحث عن الحل او العلاج وانما تقديم نموذج لشخصية فهمت حقيقة الحياة وجمعت بين الأيمان والعمل والسعي والوعي: السعي بالأخذ بالأسباب والوعي بأن السعادة ليس لها باب واحد، ولا نطلبها من خارجنا وانما نكتشف أسبابها في داخلنا.
ولأنه لا توجد بروفة للحياة وانما نعيشها غالبا بمنهج التجربة والخطأ، فإننا نجد في تجارب وسير الآخرين ما يعيننا على فهم رحلتنا في هذه الدنيا، وقد وجدت في هذه الرسالة تجربة ثرية وقصة قوية جديرة بأن تروى.يقول آينشتاين ان المثقفين يأتون لحلّ المشاكل بعد وقوعها، أما العباقرة فيسعون لمنعها قبل أن تبدأ، ومن حكمة بريد الجمعة اكتشفت ان بعض الكتاب يحاولون حل المشكلات بعد حدوثها، ولكن بعض القراء يسعون الى منعها قبل ان تبدأ، ورسالة هذا الأسبوع من هذا النوع، حيث وجدتني ابحث فيها عن كنز الحكمة الذي يمكن داخل هذا المحارب القديم، فقد تعلم من الفنون العسكرية، بذل أقصى ما في الوسع مع اليقين بنصر الله، وانه قد يخسر معركة ولكنه هدفه النهائي ان يكسب الحرب. للحقيقة هو لم يذكر في رسالته انه شارك في معارك عسكرية، ولكن اكاد اجزم انه خاض اكبر معركة مع الحياة انتصر فيه على نفسه وعلى شهوات الدنيا وزينتها ومنها (البنون)، وكانت أسلحته فيها هي الإيمان والصبر الرضا والقناعة، فعلا يا سيدي نحن نظل في صراع مع انفسنا ومع مستوى الرضا الذي لدينا، كلنا نعلم ان الرزق موزع بين 24 قيراطا، تتضمن المال والبنون وراحة البال والزوج او الزوجة الصالحة والصداقة والصحة ..الخ ، وكلنا نؤمن بأن الرزق في السماء. ولكن للأسف ليس كلنا لدينا نفس القدر من اليقين بذلك، ولا القدرة على الصبر على البلاء كما فعلت أنت، حيث قضيت 45 عاما صابرا مع زوجتك، راضيا بقدر الله، مستمتعا بحياتك، وكأنك تتمثل قول الإمام الشافعي:( دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ.. وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاء.. ُ وَكُن رَجُلاً عَلى الأَهوالِ جَلداً وَشيمَتُكَ السَماحَةُ وَالوَفاءُ)، وكنت بحق واعيا بمعنى الحب الذي حولته الى سلوك وخلق، فالإنسان حينما يسلك طريق الرضا والقناعة والايمان ويثق في أن المكتوب له هو ما يحصل عليه، ينعم براحة البال، متأكدا ان الله اختار له الخير، لأن القناعة توفّر لصاحبها الوقت الكافي ليتمتع بالحياة، بدون أن يفقد الأمل، وهنا استعيد مقولة غاندى: (كل ما تحتاجه الحياة لتكون جميلة بنظرك، هو الأمل). واكثر ما أثار اعجابي وتقديري لك هو حرصك على التخفيف على زوجتك بالحب والممازحة ورفضك التمتع بالرخصة التي تتيح لك الزواج من أخرى، وكأنك تستعير المقولة العسكرية الشهيرة (إياك في وقت الحرب أن تستعمل النجدة وتدع العقل، فإن للعقل مواقف قد تتم بلا حاجة إلى النجدة، ولا ترى للنجدة غنى عن العقل) بل الأكثر من ذلك ان طبقت في حياتك الحكمة التي تقول: اجعل كل لحظة في حياتك مثالية ولا تنتظر اللحظة المثالية . فاستطعت ان تجني ثمار السعادة لأن سر الرضا هو الاقتناع بأن الحياة هبة وليست حقاً. ولعل أفضل وسائل إسعاد النفس هي أن تسعد غيرك ليغمرك الرضا والفرح، وهذا بالضبط ما فعلته مع زوجتك، فالسعادة تتوقّف على ما تستطيع إعطاءه، لا على ما تستطيع الحصول عليه. كل ذلك جعلك تتحمل السنوات الطويلة بدون انجاب، بل ساعدت زوجتك في التغلب على غريزة الامومة. ورضيتما بقدركما مع ثقتكما في حكمة الله ، وفي النهاية ربنا عوضك عوض الصابرين فأنجبت البنات والبنين. يا سيدي قد جبرت بخاطر زوجتك، فجبر الله بخاطرك وكان جبر الله عظيما.
التعليقات