الإحتضار قبل الموت محض حياة جديدة والموت مرحلة متقدمة من مراحل الحياة، بهذة النظرية الشائكة والتي قد تعبر عن نظرة سوداوية للحياة بأسرها ولكن يغلب عليها الطابع الفلسفي العميق ، يستهل الكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك روايته الإنسانية لكهل عجوزيدعى "لويس" على مشارف الموت متحدثا لأسرته الصغيرة المكونة من زوجة يكرهها أشد الكره ويعترف لها بكل أريحية عن ذلك الشعور الدفين الذي يحمله تجاهها ، ونحو أولاده الذي يحمل لهم نفس الشعور نظرا لإرتباطهم بوالدتهم التي يبغضها ، مؤكدا لهم في لحظات النزع الأخير أنه سيفعل كل ما بوسعه كي يحرمها هي وأولاده من ثروته الباهظة التي لاتقدر بثمن لأنهم بكل بساطة لا يستحقونها !!
من خلال هذه الرسائل المطولة يكتشف القارىء نفسية هذا الكهل العجوز الذي يتصف بالحقد والجشع والبخل الشديد علاوة على إحتقاره للأديان وعدم ايمانه بالرسائل السماوية ، كما أنه يعي تمام الوعي للشر الدفين الكامن في نفسه واصفاً قلبه الذي مازال ينبض بعقدة من الأفاعي الملتوية التي لاتضمر بداخلها إلا السموم وكل سبل الموت رغم جمال مظهرها الخارجي.
ينتقل الكاتب بعد ذلك في فصول متقطعة ليكشف لنا عن سر حقده على زوجته وذلك لإنتمائها إلى طبقة إجتماعية أرستقراطية أعلى منه بكثير، كما يعترف لزوجته " إيزا" أنها لم تحمل له أي من مظاهر الحب والتقدير خلال مراحل حياتهما المختلفة، ولكنها تزوجته حتى تتناسى حبها الأول الحقيقي ، وأهملته بعد أن انجبت منه أطفالها وصاروا بعد ذلك محور حياتها مما جعله يحقد عليهم ويرى أنهم يفضلونها عليه.
لويس العجوز بطل الروايه رجل من الريف الفرنسي تربى في بيت والدته في ظروف أقل ماتوصف به القسوة ومرارة وشظف العيش ، قبل أن يعرف معنى رغد الحياة وترفها عندما ورثت أمه عن زوجها من أراض وأطيان شاسعة عملت في زراعتها وحصادها حاملة أبنها على ذراعيها لينصفها القدر بعد حين وتصبح من أصحاب الدلم خول العالية وتهنئ بعيشة كريمة لها ولأبنها "لويس".
أعتاد لويس الذي تميز بدمامة وجهه وقبح منظره على البخل والتقتيرنظراً لظروف العيش التي تربى ونشأ عليها ، ورغم تبدل الأحوال إلى الأفضل بعد ميراث أبيه ، لم يستطع أن يهنئ بهذه الأموال الطائلة والورث الشاسع نظرا لإعتياده المألوف شظف العيش وحرصه على الإكتناز أكثر من الظهور بالمظهر الذي يجب أن يظهر عليه ، ونظرا لدمامته الشديدة فقد أنطوى إلى عقله أنه رجل لايمكن لفتاة أن تحبه ، ولذلك عاش حياة عابثة مستهترا بكل من حوله فى مقايضة العاهرات بأجر محدد معلوم ومحدد مسبقا من أجل متعة لحظية عملا بالفكرة الثابتة في كينونته عقله حب مقابل مال محدد ولكل متعة أو رغبة ثمن يتفق عليه.
تظل الأحوال بنفس الوتيرة ويظل العقل الواعي لهذا الشاب بأهمية أن يكون لكل رغبة أو متعة ثمن محدد أيا كان نوعها وأنه لامجال لتفريغ العواطف أو التعبير عنها باي شكل من الأشكال ، الى أن ألتقى بإيزا التي يعجب بوالدتها في بداية الأمر ولكنه يتحول عنها الى إبنتها لفراغ عقل أمها محدثا تحولا جوهريا في حياة لويس يحذوه الأمل في أن يجد إمرأة تهيم به حبا.
الرواية دراسة نفسية إجتماعية لطبيعة التكوين النفسي للإنسان ، فهل من يظل محروما من متع الحياة أجمعها أن يبقى على هذه الوتيرة من الشح والبخل والتقتير رغم تبدل الأحوال ؟ ، وكيف لمن لم يمر بتلك الظروف القاسية أن يتساوى مع من مر بها ؟ ، وهل نتسطيع القول بأن سنوات التكوين الأولى للشخص هي الركيزة الأساسية لمنظور شخصيته في شبابه ، وهل يقتنع الأولاد بنصائح أبيهم على فراش الموت وكيف يمكن أن يصل ذلك الوعي لعقولهم وهو يفضي بأقسى المشاعر مايضمره بداخله تجاه والدتهم ؟
قد تندهش عزيزي القارئ من فكرة الرواية لعجوزيحتضر على فراش الموت يبدي تهكماً واضحاً على أسرته ولكن في ثنايا السطور حكم بالغة الأثر لإنسان عاش أطواراً مختلفة في الحياة وأقتطف لكم بعضا منها على النحو التالي :
كلما ضعف أوقل تأثرنا بفقد فرد من الأسرة إزدادت مظاهر حزننا الخارجية
إن من أخطر الأمور أن نبصر الأشخاص بمنظار المنفعة، وألا نبحث فيهم إلا عن قيمة استغلالهم
أفضل ما يمكن توقّعه من الرجال هو النسيان
إذا مات المرء استغرق وقتا طويلا فى موته، ولكن كما يُقال: سرعان ما يذهب الموتى
التعليقات