يهبط الظلام ثقيلًا على ذلك الحى الهادئ الملفوف بصمت رهيب، صمت الموتى، مداخن وقِباب فوق قصور الحى تبدو من بعيد كشواهد مقابر، أشجار مرتفعة قاتم لونها كأشباح أسطورية تضفى على ذلك الحى رهبة مقيتة.
تأتى من بعيد سيارة موديل نفس العام، سوداء لامعة تعكس ظلام الليل، تتوقف لحظة أمام بوابة عتيقة، ينعق سائقها نفيرها كبوم مستقرة على أغصان أشجار الصمت المتحجرة التى تملأ الحى، سريعًا يظهر حارس، يفتح البوابة العتيقة، تُسرع السيارة تاركة خلفها عادمها الأبيض راسمًا أشباحًا مرتعشة من برودة ليل المدينة.
أمام باب القصر تقف السيارة، يخرج سائقها مسرعًا ليفتح الباب الخلفى منتظرًا هبوط سيده.. تمر لحظات ولا ينزل الرجل، شاردًا كان، ممسكًا فى يده بعملة معدنية أثرية، يُقلبها فى كفه الأيمن فى هدوء ناظرًا إلى لا شئ، لن يتحدث السائق أمام هذا الشرود، يقف منتظرًا ولو أشرقت عليه شمس الغد.
القاطن داخل معطفه الأسود الثقيل فى مقعد السيارة الفارهة رجل يتمتع بحالة صحية لا تتواجد عند الكثير من أقرانه، يقترب من نهاية العام التاسع والستين من عمره، لا يمنعه عن تحقيق أى رغبة من رغباته مانع، يبدو الإصرار مسيطرًا على ملامح وجهه مخلوطا بمكرِ ودهاء يظهران فى عينين غائرتين وشعر فضى يسحبه على الجانب الأيمن فى عناية، وجه مسحوب باستطالة لأسفل حتى ينتهى بذقن حليقة مدببة أسفل شارب هرمى.
على وجهه علامات سعادة مضطربة، عائد من يوم عمل شاق وأمر غاية فى التعقيد، رغم حصوله على الموافقة من الجهات المسؤولة، إلا إنه يستشعر الرهبة، رهبة طالب متفوق قبل دخوله الامتحان، رهبة عاشقين لا يصدقان أنهما فى حفل الزفاف وينتظران لحظة اللقاء التى قد لا تمنحها لهم يد القدر.
موافقة اليوم على مشروعه انتصار يضاف لانتصاراته، ود لو كانت تشاركه محبوبته، صاحبة فكرة مشروعه، اللحظة ..
يشاهد وجهها الذى لم يتغير رغم مرور ما يقرب من نصف قرن من الزمان، سنوات طويلة مضت على اللقاء الأخير .. يتذكر وعلامات ترتسم على ملامحه فى هدوء ..
شاب ابن العشرينيات مرتديًا قميصًا أبيضًا وقد شمر ذراعيه حتى مرفقيه، على يسارة تسير فتاة شقراء نحيفة القد، شعرها الأصفر الناعم يتهادى على كتفيها، عيون بلون السماء، أنف دقيق مرسوم بريشة فنان عالمى على خلفية قماشية بيضاء، شفتان رقيقتان ترتجفان باستمرار رغبةً و دلالاً رغم تدينها وحرصها الدائم على الصلاة الأسبوعية فى المعبد، إنها الشقراء الشهيرة بـ "ابنة الحاخام".
تعرف عليها عندما أتى إلى والدها طالبًا دروسًا و شروحًا، يمتدحه الأب أمامها كثيرًا، مضفيًا على وسامته وقارًا ، تحبه و تتمناه .. يتواعدان .. يذوبان عشقًا .. تبثه أحلامها بين آهات عشق تخرج من الروح و الجسد قائلة "أرانى أرتمى على كتفيك، أسقيك كئوس العشق والهوى هناك .. فى أرض الميعاد" .. حلم تربت عليه منذ أن رأت أول ضوء على هذه الأرض ونجح والدها الحاخام فى تشكيل عجينتها فيتجسد الحلم جسدًا رائع الحسن، يلتقط الشاب العاشق حلمها .. ينسج تلك الحياة الهادئة الرغدة المحاطة بالعناية الإلهية فى تلك الأرض التى تتوسط العالم .. يتمنى أن يحقق لمحبوبته حلمها وأمل أسرتها، عشقهم لأرض الميعاد .. سنوات من الحب المطعم بالآهات، والقبلات، والأحضان، وشوق لا ينتهى إلا بأمرين، الزواج أو الوفاة.
إثر حادث أليم توفيت ابنة الحاخام، تركت العشيق الولهان فى حسرة وصمت كاد أن يودى بحياته، يستفيق بعد أيام، تأتيه فتاته فى أحلامه تحثه على العودة، أن يحيا من أجلها وعلى وقود دفء حب لا ينتهى عليه أن يُحقق لها حلمها، أمنية يؤكدها عليه والدها الحاخام اليهودى الذى يمتدحه ويوصى حتى يسطع نجمه فيحقق أمله وأمل طائفته.
يجتهد فى دراسته الأولية التى درس فيها على يد والد محبوبته "العهد القديم" وهو الجزء الأكبر من الكتاب المقدس ويحتوى على جميع كتب اليهود بما فيها التوراة. يترك مسقط رأسه ويتنجهام "لوثيان " فى اسكتلندا كى يُكمل دراساته العليا بجامعة كامبريدج بانجلترا.
لكل فرد حلم و طموح، يجتهد قدر طاقته لتحقيقه .. كان حلمه هو حلمها "أرض الميعاد".
لم يكمل عامه السادس و العشرون ويتم انتخابه عضوًا فى البرلمان ومع نهاية عقده الرابع يُعين وزيرًا لاسكتلندا. بخبرة وحنكة ممزوجة بدهاء رجل لم يتزوج، رجل يتفانى فى إرضاء محبوبته التى يشعر بها تراقبه فى كل لحظة، يود لو يملك العالم كى يسعدها، يتفانى فى رسم ابتسامة على شفتين لم ينس مذاقهما مهما مرت عليه السنون.
فى عامه الرابع والخمسين من تلك الفترة التى يحياها على الأرض يتم تعيينه رئيسا لوزراء بريطانيا. أى مجد يسعى إليه ذلك الرجل .. عن Arthur James Balfour آرثر جيمس بلفور نتحدث..
وبالتحديد فى اليوم الأول من شهر نوفمبر عام 1917م. لم تمر أيام على تغير الأوضاع العالمية بعد ثورة البلاشفة فى روسيا،منذ أسبوع واحد فقط قاد البلاشفة قواتهم إلى الانتفاضة فى العاصمة الروسية "سانت بطرسبرج"، لم تقاوم الحكومة الهزيلة تلك الانتفاضة الآتية بعد أحداث جِسام، بهدوء تمكن البلاشفة من الاستيلاء على المرافق الرئيسية، وفى الخامس والعشرين والسادس والعشرين من أكتوبر من نفس العام تم الهجوم على القصر الشتوى للقيصر الذى كان يحرسه القوازق وكتيبة من النساء، لم تُبد الحراسة مقاومة تذكر، تمت السيطرة على قصر القيصر، يشكل البلاشفة حكومة جديدة تُعلن خروج روسيا من الحرب العالمية الدائرة رحاها تحصد البشر والتى فقدت فيها روسيا قرابة مليونا مواطن وثلاثة ملايين بين جرحى وأسرى، يضاف إلى ذلك فقر، وخراب، وانهيار اقتصادى رهيب يعم البلاد.
تخرج روسيا من الحرب، يُصادر البلاشفة أراضى كبار الإقطاعيين ومصانع الرأسماليين بالإضافة إلى إعلان حق شعوب الإمبراطورية الروسية بالانفصال عنها.
خروج روسيا من الحرب العالمية فى هذه الظروف الصعبة، مع صعود الألمان بشكل يهدد مصالح بريطانيا العظمى، يشكل خطرًا حقيقيًا، فقد كان القضاء على الألمان وشيك خصوصا بعد تلك المشاركة الركيكة والمتأخرة من الولايات المتحدة الأمريكية ضد الألمان.
صحيح استطاع الزعيم الصهيونى "حاييم وايزمان" صديق أرثر، إقناع الرئيس الأمريكى ويلسون بالمشاركة فى الحرب، إلى جانب بريطانيا العظمى، لكن الأمر بعد خروج الروس يتطلب مشاركة أكثر حيوية وقوة وتأثيرًا.
عامل آخر كان كثيرًا ما يقلق أرثر، وزير خارجية بريطانيا فى تلك الفترة، هو تلك الهجرة الجماعية لليهود من شرق أوروبا إلى تلك الامبراطورية العظمى وشيكة الانتصار فى الحرب .. بريطانيا .. الهجرة تزيد من إحساسة بالمسؤولية تجاههم. يتذكر الحوار الذى لا يزال صداه يتردد فى أعماقه، حوار من لحظات فى مجلس الوزراء:
- اليهود أكثر تأثيرًا فى العلاقات الدولية .. إنهم أكثر إفادة لبريطانيا العظمى وهم خارجها، اليهود يحلمون ليل نهار بأرض الميعاد ..
- عدد اليهود فى فلسطين لا يتعدى الخمسة بالمائة من السكان ..
- لو توجهت تلك الهجرات اليهودية إلى فلسطين ، لسلمت منهم بريطانيا العظمى، وتَحَقَق حلمهم (حلم معشوقته الأبدية) وأصبحوا يدًا تستخدم فى قلب العالم،يُستفاد من أثرياءهم ورجالهم فى أمريكا وبعض مناطق العالم فى دعم بريطانيا فى الحرب للانتصار والحفاظ على المستعمرات المنتشرة فى الكرة الأرضية، التواجد
البريطاني فى مصر غير آمن ولن يطول .. القوى الوطنية هناك تصارعنا .. يجب نقل حلبة الصراع إلى مكان آخر كى تهدأ مصر ..
عندما ذكر اسم مصر كانت يده فى جيب معطفه تعبث بقطعتة معدنية يستجديها الشعور بالأمان، قطعة منقوش على وجهيها صور فرعونية لأوزير وست، يستمر فى نسج شباكه وهو يكمل حديثه قائلًا:
- يجب أن نصنع وطنا لهم .. ماذا لو باركنا إقامة وطن لليهود فى فلسطين ؟
- فلسطين ليست أرضا تابعة لبريطانيا حتى نعد بها اليهود ؟
أوف.. يزفر بشدة .. معادلة صعبة .. يفكر لحظات .. يمط شفتيه .. يعتصر عملته المعدنية فى جيبه، يجيب :
- أرض فلسطين ليست ملكا لنا ، لكن مباركتنا لإقامة وطن لليهود فيها ودعمنا لهم يضع حلولًا عبقرية لتلك المعادلة ..
الحرب الدائرة سوط يلهب ظهر المستعمر..!! ولم لا وخوفهم من إعادة تقسيم المستعمرات يهدد مستقبلهم، بعد نقاش طويل يُظهر فيه "آرثر" براعة ومكرًا، يستطيع الحصول على موافقة مجلس الوزراء.
وكأنه يصحو من حلم هادئ، ينظر إلى السائق الواقف كتمثال شمعى بجوار باب السيارة، يهبط أرثر، يخطو فى ثقة وهدوء، يلتفت شاخصًا ببصره إلى السماء، عدد قليل من النجوم يصارع من أجل البقاء فى هذا الليل، يختار أكثرهن لمعانًا، يُركز ناظريه لحظات، تنسحب روحة إليها، يبتسم، تلمع تلك النجمة أكثر، يستشعرها تُبادله السعادة.
يدلف إلى منزله القابع ككائن أسطورى أسود تبدو معالمه فى الظلام، محاط بحدائق تفصله عن العالم، يجلس فى حجرة مكتبه بين أثاث عتيق وكتب تغطى جدرانها مع لوحات زيتية أصلية لأشهر رسامين عصر النهضة، سكون الليل يلقى بمخالبه على المكان، يتحرك بين مكتبه وفوتيه فى جانب الحجرة مفكرًا بعمق.
ينظر إلى الساعة ذات البندول الطويل الذى لا يكل الحركة باحثًا عن حريته يمينًا ويسارًا، تخطت الثانية عشرة ليلًا بقليل.. تنقر النوافذ قطرات المطر الثقيلة المصحوبة برياح تصفر كأطفال يتامى يئنون فقد الأب والجوع..
يجلس خلف مكتبه، أسفل صورة زيتية لفارس يستعد لركوب جواده الأسمر وسيفه معلق فى غمده، خلفيتها أشجار ضخمة وأعشاب خضراء متناثرة وقد تفتحت بعض زهورها الحمراء والبيضاء، يسحب ورقة بيضاء وقلمًا يُلقى بحبره الأسود عليها، يبدأ فى كتابة تلك الكلمات:
وزارة الخارجية
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جدًا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته :
"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح.
المخلص
آرثر جيمس بلفور
التعليقات