تعددت الإنجازات الفكرية للفيلسوف والمفكر الكبر الدكتور حسن حنفي عبر مشاريع بحثية شغلت عمره، ولكن ربما يكون إنجازه الأكبر انه أنزل الفلسفة من برجها العاجي وجعلها تسعى بين الناس، تستجيب لقضاياهم، وتنطلق من الواقع، وتطرح أسئلته على تراثنا، لذلك شاهدنا، في سابقة تعد الأولى من نوعها، جثمانه يطوف بين أروقة جامعة القاهرة التي كان رئيس لقسم الفلسفة فيها، ليظل حتى أخر لحظه من عمره بين تلاميذه وزملائه كما كان في حياته، وهكذا عاش ومات بين الناس وأنجز مشروعه الفكري من اجل تغيير أحوالهم ومواجهة حالة التخلف الفكر والحضاري التي شغلته كما شغلت أجيالا من المفكرين في تاريخنا المعاصر.
رحيله لم يكن فقط فاجعة عامة، وإنما أيضا كان فاجعة شخصية حيث تتلمذت على مؤلفاته وان كنت اختلف مع بعض ما جاء بها، دون أن يمس ذلك مكانة الأستاذية، لأن أول درس علمه لتلاميذه، كان احترام الرأي المخالف. ودرجت على قراءة بعض مقالاته قبيل نشرها بصحيفة الاتحاد بحكم عملي بالصحيفة. وكان أخر لقائي معه في ندوة بمركز الإمارات للدراسات للبحوث والدراسات الإستراتيجية بابو ظبي منذ عدة سنوات، حيث فاجئ الجميع كعادته بطرح مختلف ورؤية مغايرة لتوقعات غالبية الحضور إزاء القضية محول النقاش، وهكذا ظل الى أخر عمره يعبر عن رأيه باستقلالية تامة وقناعة شخصية بعيدا عن أي حسابات أخرى .
في مشروعه الفكري اختار حسن حنفي الذي رحل عن دنيانا خلال الأيام القليلة الماضية عن عمر ناهز 86 عامًا، ألا يكرر ما قاله السابقون، وقرر ان يغرد خارج السرب ولكن بدون تعالي، لم يكتفي بشرح الحواشي وإنما ناقش المتون في تراثنا الفكر ليس مستنكرا ولا مطالبا بالقطيعة كما فعل آخرون استسهالا او تقليدا للغرب، وانما ناقدا أحيانا ومستحسنا في أحيان أخرى. خاض معركته بمشروع فكري كبير شعاره التنوير الحقيقي لا التنوير المزيف الذى يسعى لهدم التراث، لذلك نجده حينما اجتهد في تجديده ، قدم خيارات فلسفية جديدة أمام الفكر العربى، وحتى لو كان قد اخطأ،كما قد يرى البعض، فإنه يكفيه أجر المجتهد وشرف المحاولة!
وفي العلاقة بالآخر كان حسن حنفي أكثر رحابة وإنسانية من نظرائه بالغرب، فعلى خلاف المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون ( 1927 - 2008) الذي دعا الى صدام الحضارات، قدم حنفي رؤية فلسفية عالمية في معالجة العلاقة بالغير المختلف ثقافيا ودينيا، عبر كتابه الشهير (مقدمة في علم الاستغراب) حيث كان سباقا فى التنبيه إلى أهمية التقارب بين الشرق والغرب بعيدا عن الصراع والحروب.مرسخا لفكرة إنسانية عالمية في تبادلية علاقة الأنا بين الآخر.
وتصدى لقضية العلاقة مع تراثنا الديني الذي شكل محور مشروعه الفكري عبر ثلاثة مستويات: يخاطبُ الأولُ المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ وقاعات البحث، والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة، والأخيرُ للعامَّة، بهدف تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة.
وفي هذا المشروع الفكري يقاوم حسن حنفي (آفات العرب الثلاث: التقليد للقدماء والتبعية للغرب والعزلة عن الواقع)، على حد قوله،حامِلا على عاتقِه رؤيته لتجديدِ التراث، مُنطلِقا من دراسته ومحاولة فهمِه لإِعادةِ بنائه مرة أخرى من خلالِ علومِه.
ونجد في هذا المشروع أن التراث غاية والتجديد وسيلة، ومساره تأتي النهضة سابقة على التنمية وضرورة لها، كما يسبق الإصلاح النهضة، معتبرا أن تجديد التراث هو تحرير الطاقات المختزنة لدى الجماهير من كل ما يعيقها نحو الإسهام في تحريك التاريخ وبناء الحضارة.
تعددت مؤلفاته ضمن هذا المشروع ومنها:«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء» « موقفنا من التراث القديم »، « التراث والتجديد»، «من النقل إلى الإبداع»، « موسوعة الحضارة العربية الإسلامية»، . ربما جاءت قراءته لتراثنا لتكمل النظرة التنويرية التي قدمها د. زكي نجيب محمود ولكنها بلاشك تغاير النظرة التثويرية التي قدمها آخرون مثل الطيب تزيني، وأظن أنها نظرة توظيفية لا تخاصم التراث،وانما توظفه لخدمة نهضة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، نتمنى ان يبنى عليها تلاميذه في السعي الحثيث للإجابة عن السؤال المعضلة، وهو:كيف نتعامل مع تراثنا بعيدا عن التجريح أو الدروشة؟!
التعليقات