"دارين أرنوفسكي" توليفة أبداعية متعددة الروافد؛ تمتلك قدرا كبير من المعرفة التى تم توظيفها طبقا لما يعتقده "أرنوفسكي" نفسه عن الخالق والكون؛ وبالطبع لا تمنحنا الحياة كل يوم مقابلة مخرج مثير للجدل مثله وهذا ما يجعل من وجوده ضمن ضيوف مهرجان الجونة السينمائى فى دورته الخامسة فرصة لا تعوض.
يعد أرنوفسكي واحدا من أشهر المخرجين في الولايات المتحدة الأمريكية؛ عرف عنه نشاطه البيئي والذى كثيرا فى أعماله الدرامية وخاصة فيلمى "نوح" و"الأم".
بالطبع الطموح هو أحد أكبر نقاط القوة لدى أرنوفسكي ، ولكنه فى النافورة "The Fountain" يتخطى حدوده في تأمل الأخلاق في الروايات داخل السرد. هناك الكثير من القصص، والكثير من الموضوعات ، والكثير من الزخارف المتكررة لتتمكن ببساطة من البدء في معالجة ما يحاول أرنوفسكي فعله بالضبط. أنه النسخة الأكثر بساطة وفعالية عن قصة الحب التى تجعلنا بشر ؛ حيث ترتكز وتغرق تمامًا التأمل في الدين والحب والتصوف.
من المعروف أن إنتاج "النافورة" كفيلم كان سيتكلف 70 مليون دولار، لكنه اضطر إلى إلغاء نصه الأصلي وإعادة كتابته بميزانية 35 مليون دولار.
جردت هذه الخطوة الحبكة إلى أبسط أشكالها ولكنها احتفظت بجميع الأفكار المهمة التي ربما شعربأنها عضوية أكثر عندما كان للفيلم ميزانية أكبر ومساحة أكبر للتنفس. أطلق أرنوفسكي نفسه على "النافورة" نسخته من مكعب روبيك) مكعب روبيك هو لعبة عبارة عن مكعب ذو ستة أوجه موزع عليها 26 مكعبًا صغيرًا ملونًا، يحتوي على لغز ثلاثي الأبعاد، ويصنف ضمن ألعاب الذكاء)؛ أنها مقارنة ملائمة لفيلم تم إجباره على حشو الأفكار الممتدة لقرون في 96 دقيقة. فيلمه النافورة The Fountain بطولة هيو جاكمان وريتشل وايز وإلين بورستين. وتدور أحداث الفيلم حول الباحث (تومى) والذي يقوم بدورة هيو جاكمان الذي يسعى جاهداً لإيجاد علاج للورم الدماغى لإنقاذ زوجتة (ايزى) والتي تقوم بدورها ريتشيل وايز المريضه عن طريق تجريب مركبات تم الحصول عليها من شجرة ما في أمريكا الوسطى ولكن دون جدوى حيث تدور الأحداث بالتزامن مع أحداث في الماضى عندما يحاول محارب إسباني أن يحمى ملكتة والبحث عن شجرة الحياه المخبأة من أجلها.
لا توجد كلمات لوصف فيلم "الأم" حيث يمزج الفيلم بين الطموحات الموضوعية لفيلم "The Fountain" و "Pi" مع شدة الخوف من الأماكن المغلقة لـ "Black Swan" لخلق تجربة فريدة حقًا. إذا كان "نوح" لوحة فنية لأرونوفسكي لاستكشاف تفسيره الخاص للكتاب المقدس ، فإن "الأم" هي لوحة المخرج لصياغة كتابه المقدس المعاصر.. كشف المخرج دارين أرنوفسكي عن المعني الحقيقي وراء فيلمه "Mother"، حيث قال "أردت أن أخرج فيلماً عن الأرض وعن كيفية تعاملنا معها، وكأنها الأم التي نعاملها بكل قسوة وحقارة غير مباليين بأهميتها، كما أكد أن النجمة جينيفر لورانس لعبت دوراً هاماً بأحداث الفيلم، وإنها إستطاعت أن تجسد الدور بكل حرافية. حيث تجسد الطبيعة الأم، وخافيير باردام هو "الأله"، وكل مايدور بأحداث الفيلم هو إسقاطات على واقعنا الذي نعيشه بكل تفاصيله. وأضاف بحثت كثيراً خلال السنوات الماضية، عن كيفية صنع فيلم سينمائي يناقش الأرض بطريقة مختلفة، وهو ما أرهقنى كثيراً، لكن في النهاية النتيجة كانت مذهلة، من قبل النجمين جينيفر لورانس وخافيير باردام.
يُعد فيلم "البجعة السوداء""Black Swan" علامة فارقة في مسيرة أرنوفسكي المهنية حيث يمثل المرة الأولى التي يتم فيها ترشيح فيلم له لجائزة الأوسكار لأفضل مخرج وأفضل فيلم. حيث أستطاع مع مصوره السينمائي المفضل ماثيو ليباتيك لتحويل الكاميرا إلى راقصة بحد ذاتها. تصنع الكوريجرافيا (مفتاح تصميم الرقصات للباليه) حالة من الخوف من الأماكن المغلقة.
غالبًا ما يشار إلى فيلم "قداس من أجل حلم" باعتباره أحد أكثر الأفلام إثارة للقلق على الإطلاق ، ولسبب وجيه. ليس فقط موضوع إدمان المخدرات الذي يصعب تحمله ، ولكن الطريقة التي يقدم بها أرونوفسكي المادة كدورة لا تنتهي من المونتاج التي تزداد استنفادًا ورعبًا. حيث يقدم تمثيلًا مرئيًا لإدمان المخدرات على مستوى جديد تمامًا من الارتباك. يقدم فيلمه إحساسًا كابوسًا بجرعة زائدة. أنت لا تشاهد فقط شخصياته تخرج عن نطاق السيطرة ، ولكنك مجبر على التعايش معها.
لا يزال "قداس" تحفة من روائع السينما. "قداس من أجل حلم" (Requiem for a Dream) بطولة إلين بورستين وجاريد ليتو وجينيفر كونيلي ومارلون واينز/مأخوذ عن روايةٍ تَحِملُ نفس الاسم للكاتب هيوبرت سيلبي الذي شاركَ أيضاً في كتابةِ النصِّ مع أرونوفسكي. الفيلم يُلقي الضوءَ على الإدمان بمفاهيمه المُختلفة، وكيفَ يُغيّر حياةَ الأفراد، وليسَ إدمانَ المخدّرات فقط، بل أنواعاً مُختلفةَ من الإدمان.
وقد سلّط الفيلم الضوء على أربع شخصيات تجمعهم أحلام أرقتّهم ولم تتحقق: ثلاثةُ شبّان يعانون من إدمانهم للمخدرات وسيّدة عجوز تعالج وحدتها بالجلوس أمام شاشة التلفزيون، الأمر الذي يَجعل طموحات كل منهم وآمالهم تتغيّر وتتحوّل. حازَ الفيلم على 32 جائزة كما ترشّحت بورستين لجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة عن أداءها. وقد عُرِضَ الفيلم لأول مرة في مهرجان كان السينمائي 2000
يعتبر "Pi" بمثابة تأملات لأرونوفسكي حول اليهودية والرياضيات والتصوف. لا يزال يركز على بطل الرواية ماكس كوهين ، الذي يلعبه شون جوليت بشراسة مخيفة. "Pi" هي دراسة شخصية متنكرة في شكل فيلم إثارة بجنون العظمة
كانت أذكى خطوة مهنية قام بها أرونوفسكي على الإطلاق فيلم "المصارع" لأنها ولادة جديدة للإبداع وغريزة الإخراج التي لم يكن المخرج قادراً على تجاوزها. إنه تحفة حقيقية. المصارع ( The Wrestler) سنة 2008. الفيلم حاز الفيلم علي جائزتين جولدن جلوب وترشيخ آخر .
كما تم ترشيحه لجائزتي أوسكار عام 2009 .القصة مستوحاة من الواقع تدور يدور فيلم المصارع حول قصة راندي روبنسون .. مصارع كبير في السن يحاول أن يقضي يومه ما بين العيش على ذكريات الماضي ومحاولة اصلاح الحاضر .. كان راندي أحد نجوم في اللعبة في السابق .. وما زالت آثار النجومية تطارده في توقيعه للجمهور على قمصانهم وأشرطة الفيديو لنزالاته القديمة .. ولكن ذلك لم يعوضه يوما عن علاقته المكسورة بابنته الوحيدة ومحاولاته العديدة لإعادة المياه لمجاريها. يجبر المصارع على ترك مشواره بسبب تعرضه لأزمات في القلب، فيضطر للعمل كنادل بينما يحاول ان يسترضي ابنته في نفس الوقت الذي يحاول فيه استمالة راقصة في ملهى ليلي إلى قلبه، فجأة يجد نفسه أمام تحدي جديد قد يعيده للحلبة لخوض نزال ضد عدوه اللدود .
ومن الملاحظ أنه منذ بداية مسيرته في عالم الأفلام، انجذب أرنوفسكي إلى الشخصية المهووسة المعزولة نسبياً التي تحارب قوى جبارة، داخلية وخارجية، أو شياطين حقيقية ووهمية: شون غوليت بدور عالم الرياضيات المعذب في Pi، جاريد ليتو بدور المدمن في Requiem for a Dream، بورتمان في دور راقصة الباليه المضطربة عقلياً في Black Swan، وميكي رورك في دور الرياضي الذي أفل نجمه في The Wrestler.يمثل نوح، بطرق عدة، خيطاً مماثلاً في النسيج الروائي هذا. لكن قصته ظلت محدودة بما روته التوراة.
عندما كانت قصة الخيال العلمي Pi التي أخرجها أرنوفسكي قبل نحو 15 فى طريقها إلى دور العرض، زار هذا المخرج متحف التكنولوجيا الجوراسية في مدينة كولفر في كاليفورنيا. كان هذا المتحف المذهل والمبدع علمياً المخصص لتاريخ الأرض يعرض تصميماً صغيراً كاملاً عن فلك نوح.
كان بإمكان أرنوفسكي أن يتجاهله بكل سهولة، لكنه لفت نظره وأشعل مخيلته. يتذكر هذا المخرج البالغ من العمر 45 سنة: {بدا لي نموذجاً منحوتاً مميزاً. ففكرت: ‘من الغريب أن رواية التوراة هذه منسية. شكّلت روايات التوراة في مرحلة ما نوعاً قائماً بحدّ ذاته قدّم بعض أعظم الأفلام التي صُنعت. لكن التوراة ما كانت، آنذاك، قد خطرت ببال أحد منذ زمن}.
بعد ذلك، نجح أرنوفسكي في تقديم فكرته هذه عن الطوفان إلى المنتجة ليندا أوبست. بعد انتهائه من فيلم Requiem for a Dream بحلول 2003، بدأ أرنوفسكي العمل مع كاتب السيناريو آري هاندل على نص {نوح}. ولكن لم يأخذ أرنوفسكي هذا الفيلم على محمل الجد، إلا عام 2006.
عندما حقق فيلم أرنوفسكي Black Swan نجاحاً تجارياً مع تخطي مبيعاته العالمية على شباك التذاكر 329 مليون دولار، ومنح الممثلة ناتالي بورتمان جائزة أوسكار، استعادت فكرة انتاج فيلم {نوح} بريقها. واختير راسل كرو لأداء دور نوح، جنيفر كونيلي زوجته نعمة، ولوجان ليرمان ودوجلاس بوث وليو ماكهاغ كارول أبنائه حام وسام ويافث.
أدرك أرنوفسكي، الذي يعتبر نفسه ملحداً وباحثاً في التوراة، أنه مهما أجرى من أبحاث حول فيلمه ومهما أولى التفاصيل من اهتمام (إذا تأملت عن كثب تلاحظ أن ثمة سبعة أزواج من {الحيوانات الطاهرة}، كما يذكر سفر التكوين، وزوج من الحيوانات الأخرى)، سيجد الناس ما ينتقدونه. لذلك يؤكد أنه يعتبر أن الفيلم مخلص للنص الأصلي قدر المستطاع. ويضيف: {لا أريد معارضة النص. فلا يمكنك في النهاية حذف السايكلوب من أعمال هوميروس. لم نضمن هذا الفيلم ما نخشاه ولم نقلل من احترام أحد، بل أخذنا هذه الرواية وحولناها إلى أسطورة}
عمد أرنوفسكي وهاندل إلى صوغ قصة مليئة بالحركة مقتبسة من التوراة تشمل هلاكاً شاملاً وتضم حيوانات أسطورية عملاقة استوحياها من النفليم في التوراة وساعدت نوح في تشييد سفينته الضخمة.
استشار هاندل وأرنوفسكي علماء الدين واطلعا على نصوص لا تحصى. كذلك لجآ إلى المدراش اليهودي الذي يتضمن قصصاً تملأ الفجوات وتفسر معاني روايات التوراة. ولا شك في أن رواية التوراة عن رجل في القديم أُمر بإنقاذ اثنين من كل جنس قبل أن يمحو الله كل البشرية الخاطئة تثير أسئلة عميقة عن هذه الشخصية والزمن الذي عاشت فيه، علماً أن التوراة لا تقدّم أي أجوبة عن ذلك.
رغب أرنوفسكي في تصوير مدى انحطاط البشرية، فصوّر الأرض كشخصية، مستخدماً مشاهد من أيسلندا أظهر من خلالها أن الأرض باتت جرداء قاحلة. نتيجة لذلك، صار العالم وما فيه بحاجة إلى بداية جديدة. ولا شك في أن هذه الرسالة البيئية تلاقت مع أفكار النقاد المحافظين، وإن بطريقة خاطئة. نتيجة لذلك، اتسع مدّ المشككين حتى شمل الشركة المنتجة.
"نوح" هو بلا شك أضعف فيلم لأرونوفسكي ، ويعتبره البعض أكبر زلة قام بها المخرج في هذه الملحمة التوراتية التي تبلغ تكلفتها 125 مليون دولار هي تحويل ملحمة نوح إلى مواجهة بالسيف؛ لتصبح قصة نوح أقل إثارة للاهتمام عندما يتم تقديمها على أنها "المصارع" عندما يمتزج بشخصية بطل "القلب الشجاع" ؛ محاولا الفيلم الى عمل عن صراع الحضارات.
ينجح فيلم "نوح" على نطاق أكثر حميمية ، حيث يحول شخصيته المركزية إلى بطل معادٍ للبطل. يرى أرنوفسكي نوحًا على أنه فاعل خير يعاني من ثقل مهمة خلقه الله من أجلها. إنه ليس مخلصًا فخورًا أو نبيًا نبيلًا ، لكنه رجل مدفوع إلى حافة الجنون بسبب فشله في تفسير ما تعنيه رؤاه. نوح شخصية أرونوفسكي المثالية ؛ هاجس يؤذي الذات ؛ فلا عجب أن ينجذب المخرج إلى هذه القصة على وجه الخصوص؛ خاصة عندما يكون الفيلم أكثر إقناعًا عندما نشاهد الشخصية تخوض شكوكها وعزلتها. يغوص نص أرنوفسكي أيضًا في الظلال الكونية ، مثل تسلسل مثير للتفكير يخبر أسطورة الخلق من خلال دمج خيوط الخلق والبيئة معًا. لا يُمنح معظم المخرجين أبدًا فرصة لتفسير فهمهم للكتاب المقدس بمقياس 125 مليون دولار.
التعليقات