من وأنا طفلة عندي ثلاث سنوات بلبس نضارة، كنا ساعتها في فرنسا وبابي عمل لي نضارة هناك، مكنش السن ده في مصر له نضارات؛ من أيام سيدنا نوح تقريبًا.
كل ما كنت بأكبر كان قصر النظر بيزيد، وكان ده بيخوفني، تعرضت لكافة أشكال التنمر بطفلة في كل مكان كنت بتواجد فيه وعمري ما قلت لحد إني كنت بنام معيّطة كل يوم من شدة التنمر.
اللي يقول لي "يا أم أربع عيون" واللي يقول لي نضارتك "كعب كوباية".
المهم، لما نضارة فرنسا اتكسرت عملنا نضارة جديدة، المتاح ساعتها كانت نضارات بلونين اثنين بس؛ أسود وبني، قرعتي وقعت في الأسود.
من شدة كرهي لها، كنا مسافرين مرة وفتحت شباك العربية وحدفتها على آخر إيدي على شريط القطر.
طبعًا مقولتش لأهلي غير بعد يجي عشرة كيلو عشان محدش يقف ويلقيها، وطبعًا قولت لهم إنها طارت من على وشي وكده.. معروف ليه يعني من غير إحراج. نجحت الخطة وتخلصت منها للأبد.
فَضّلت امشي مش شايفة على إني أقبلها على وشي تاني.
النضارة وصلت لوزن أسطوري بتقدم العمر وزاد الطين بلة إنه كنا بنعملها "فوتو براون"؛ يعني كعب كوباية غامقة مفرطة القبح..
الوضع ده خلق عندي كطفلة هزة نفسية عنيفة، خصوصًا إني كنت كتومة جدًا ولا أحب التحدث عن ألمي، وده خلاني فقدت ثقتي بنفسي فترة ليست بقصيرة من حياتي.
ثم ظهرت العدسات اللاصقة، فأصبحت جزءًا من عيني أسأت استخدامها جدًا؛ بنام واصحي بيها عشان أنسى شكلي بالنظارة القبيحة، لدرجة في خلال ست سنين كنت اكتسبت حساسية شديدة مينفعش معاها البسها تاني.
عمري ما صدقت إني جميلة مهما اللي حواليا قالوا لي.
أنت بتصدق اللي بتؤمن بيه من جواك.
في الوقت ده كنت دخلت كليتي واتخطبت بعمر ١٨ سنة، وكان لازم ساعتها أتقبل قدري.
قررت أكون جميلة من جوايا وأخذت على نفسي عهد أخلي شكلي من جوه أحسن من برة.
تقبلت كعب الكوباية، مضطرة برده يعنى مكنش فيه بديل؛ مكنتش بشوف أكتر من عشرين سنتيمتر من غير نضارة.
بس عملت حاجة غريبة جدًا؛ احتفظت بكعب الكوباية للآن.. أيوة، عندي نظارتي من وأنا في المدرسة لغاية دلوقتي.
كعب الكوباية دلوقتي حبيبتي، ومن وقت للتاني ألبسها وأصور نفسي بيها واستغرب جدًا كم الوجع اللي سببته لي وكم القوة اللي اكسبته لي.
كلنا عندنا كعب كوباية في حياتنا.
من كم الهزائم تولد العزائم ومن رحم الوجع تُكتسب القوة.
دلوقت بس أحببت ضعف بصري لأنه ببساطة كان سبب انتصاري على ضعف نفسي.
انتصارك على وجعك ولو أخذ من عمرك سنين بيبقى أنجح الحروب اللي تخوضها في حياتك.
وتوالت السنوات ولم تنته القصة. بعمر ٣٠ سنة، عملت تصحيح إبصار. وافتكرت أن أوجاعي انتهت للأبد.
ولكن كان للقدر رأيًّا آخر.
دخلت في قصة طويلة عريضة؛ إشي مياه بيضا وزرقا وفحوصات وعمليات.
انتهيت بلبس كعب الكوباية تاني، برده مضطرة.
في الوقت ده أقرب صديقاتي فقدت بصرها كليّةً. عشت معاها التجربة القاسية يوم بيوم. هنا عرفت إيه هي نعمة البصر الحقيقية.
عرفت إنك لو شايف سنتيمترات قليلة أُدامك فأنت في نعمة تكفيك عمرك كله.
أن تولد ضرير شيء وفقدان بصرك بعد تذوق نعمته لهو أقصى الأقدار. التعرف على النعمة حلو والصبر على فقدانها علقم مر.
حبيت كعب الكوباية أكتر وأكتر. مش كل أعدائك خصوم؛ أنت ممكن تبقى الخصم الأكبر لنفسك.
الرسالة وصلت.
انتهت مشكلة قلقي من لبس النضارة. أصبحت جزء حلو من حياتي.
بلبسها بسلسلة وعندي أربع نظارات شمس وظل وقمر وألوان وحاجة آخر شياكة.
مكنتش في يوم من الأيام أحلم إني أحب حاجة نقصاني بالشكل ده.
حِب نفسك زي ما هي على قد ما وُهِبت من النِعَم فيها، أنت تكتمل برضاك عن نفسك ورزقك وقدرك.
إن رضيت ازدانت أيامك وهانت أحزانك وانهزمت كثير من الأوجاع داخلك.
الرضا بيخلي الوحش الكاسر اللي جواك نسمة تتهذب بها روحك وتتأدب معها كلما نظرت لعظمة عطايا الله لك.
أنت دومًا في نِعَم لكنك لا تراها، قوم البس النضارة.
التعليقات