ربما باستثناء كاثرينا العظمى التي اعتلت عرش روسيا لثلث قرن، لا يعرف القرن الثامن عشر امرأة أوسع تأثيرا في ثقافة عصرها من جين أنطوانيت بواسون، التي عرفت لاحقا باسم "مدام دي بومبادور".
الفرق أن كاثرينا كانت نبيلة ألمانية رتبت لها الأقدار زواجا شرعيا من امبراطور روسيا، أما "بومبادور"، ابنة البقال، فقد دخلت التاريخ من بابه الخلفي المخصص للعشيقات.
ولأن الطموح كالفقر، لا يعبأ كثيرا بالعار، فقد رأت أم بومبادور أنه لا يجب إهدار جمال ابنتها الاستثنائي بالزواج وتربية الأطفال، فوضعت الأم خطة طويلة المدى لتصل بابنتها لمنصب من أهم مناصب البلاط الفرنسي، ألا وهو "خليلة الملك".
وبعد سنوات من الدراسة الشاقة للفنون والآداب وأصول الايتيكيت على أيدي أفضل المعلمين، بلغت "جين" سن العشرين، شابة لا يقل ذكاؤها فتنة عن جمالها. ورأت الأم أن الوقت قد حان لكي تغزو ابنتها معاقل الطبقة الراقية، فدبرت لها زواجا من إبن موظف مرموق في وزارة الخزانة.
ولم يكن الزوج الذي هام بزوجته منتميا للطبقة الارستقراطية، لكنه كان قريبا منها بما يكفي، ففي بيته التقت برجال من نوعية "ڨولتير ومونتسكيو" وحازت على إعجابهم بذكائها وسعة اطلاعها، ولأنها كانت تجيد الإنصات أكثر من الحديث فقد فهمت من هؤلاء الكتاب، الذين سماهم التاريخ لاحقا فلاسفة التنوير، الكثير عن سياسة فرنسا وملكها.
وبدت "جين" سعيدة بطفليها وراضية عن زوجها، لدرجة أنها أخبرت أمها في رسالة أنه لا يوجد رجل في هذا العالم، إلا الملك، يمكنه أن يجعلها تخون زوجها، وهنا اطمئنت الأم إلى أن ابنتها قد أصبحت على أهبة الاستعداد لنيل المنصب الرفيع، والذي كانت تعدها له منذ الصغر.
وبفضل معرفتها بأشخاص مؤثرين وكرمها في بذل الرشاوي، نجحت "أم جين" في تدبير عدة لقاءات عرضية لابنتها مع الملك لويس الخامس عشر.
ونتج عن هذه اللقاءات أن قدم الملك للزوجة الشابة عرضا لا يليق إلا بالملوك، وهو أن تنتقل للإقامة بأحد أجنحة قصر "ڨرساي" بصفتها المركيزة دي بومبادور.
ونصح أحد رجال الملك زوج "المركيزة" بأن يتقبل الأمر بروح فلسفية وأن لا يستسلم لغضبه كالبرجوازيين، ووجد الزوج وجاهة في هذه النصيحة الصادقة خاصة انها اقترنت بتعيينه جامعا للضرائب. أما الأم فقد فارقت الحياة شاعرة أنها قد أدت رسالتها تجاه ابنتها على الوجه الأمثل.
ولم تكن الحياة في ڨرساي سهلة لامرأة ذات آراء تقدمية كبومبادور. فلويس الخامس عشر نفسه، والذي ورث عن جده الرابع عشر إسمه وعرشه وولعه بالنساء وميله للانفراد بالرأي، لم يرث عنه ذهنه المتفتح وحرصه على الارتقاء بالتمدن.
كذلك لم يكن رجال الحاشية من المحافظين والمتدينين راضين عن وجود بومبادور في القصر. ليس لأنها، لا سمح الله، عشيقة للملك المعروف بورعه، ولكن لأنها فضلا عن انتمائها للطبقة الوسطى غير النبيلة، كان يعرف عنها الاعجاب بآراء الفلاسفة المتحررين، الذين لا يخشون إعلان تحديهم للكنيسة.
ورغم كل ما حيك ضدها من مكائد، تمكنت بومبادور من أن تفرض سيطرتها على ڨرساي لما يقرب من عشر سنوات كاملة. ليس لأنها كانت امرأة فاتنة، بل لإدراكها أكثر من الذين كانوا يعايرونها بأصولها المتواضعة أهمية الثقافة، فتلك المرأة التي لم يكن يضاهي قدرتها على جمع المال سوى قدرتها على التخلي عنه، تمكنت من أن تجعل من ڨرساي قلعة للتحف والفنون.
أنفقت بومبادور من ثروتها الخاصة على استقطاب الرسامين والنحاتين وكتاب المسرحيات من أوروبا والصين واليابان. وامتلأ ڨرساي في عصرها بالمرايا والسجاد والأثاث الفاخر. خاضت معارك ضد الرقابة على الكتب ولم تتورع عن إبداء رأيها في ضرورة الاقتداء ببعض السياسات الانجليزية ومن ضمنها حرية نشر الآراء.
وأنقذت بومبادور بنفوذها ومالها موسوعة ديدرو الفلسفية من الحظر، والتي لا زال الفرنسيون لليوم يفاخرون بها العالم كنقطة انطلاق لفلسفة التنوير.
وكادت في خضم معركة فكرية أن تقنع الملك بفرض ضرائب على الكنيسة وتقليص امتيازات قادتها، مما أدى بحراس الإيمان إلى التراجع وترك بومبادور لحالها.
ويقال أنها تركت مكتبة تضم 3500 مجلد في مختلف مجالات المعرفة، ونجحت أن تقنع الملك أنه لا يجدر ببلد كفرنسا أن تستورد الخزف من الصين، فتحولت مدينة "سيفر" بفضل نظرتها الثاقبة لأهم منتج للتحف الخزفية في العالم المتمدن.
ورأت بومبادور أن سبب اضمحلال فرنسا العسكري يكمن في ضعف اعداد قادتها العسكريين، فاقترحت على لويس انشاء مدرسة للعلوم العسكرية يلتحق بها أبناء شهداء الحروب. وعندما تباطأ الملك المشهور بورعه وبخله في انشاء تلك المدرسة، أقامتها بومبادور من مالها الخاص والتزمت بنفقاتها لعام كامل حتى وفرت الدولة الاعتمادات اللازمة.
مئات من الكتب تناولت تفاصيل سيرة ابنة الطبقة الوسطى التي منحت فرنسا نفسا جديدا وماتت بداء السل قبل أن تبلغ الخامسة والأربعين.
وقد لا يرى البعض في بومبادور غير عاهرة ساعدتها الصدف، بينما يرى رجل في قامة "ديورانت"، صاحب موسوعة "قصة الحضارة"، أن تأثيرها على المدنية الأوروبية كان يفوق تأثير عصر لويس الرابع عشر بأكمله.
ولم يعرف عن بومبادور أنها كانت تهتم كثيرا أن يراها الرجال مساوية لهم، أو حرصها على أن يراعي الآخرون مشاعرها المرهفة طوال الوقت. فقد تركت مثل تلك المسائل الحساسة لسيدات البلاط من ذوات الأصول النبيلة.
التعليقات