كان لإنشاء منظمة التجارة العالمية الدور الأكبر في اتجاه الدول إلى تحرير العديد من قطاعاتها الاقتصادية، تماشياً مع موجة العولمة والخصخصة التي اجتاحت اقتصادات الدول تماشياً مع متطلبات النظام العالمي الجديد.
وقد كان الهدف من إنشاء المنظمة هو تحرير تجارة السلع والخدمات عبر العالم.
ويعتبر قطاع الاتصالات من أهم القطاعات التي أولتها منظمة التجارة العالمية اهتماماً خاصاً، حيث ناقشت دول المنظمة تحرير قطاع الاتصالات مطولاً وانتهت إلى تبني بروتوكول ملحق باتفاق التجارة في الخدمات (الجاتس) متعلق بهذا القطاع.
ومن هنا فإننا سنستعرض بداية من هذا المقال نبذة تاريخية عن دور منظمة التجارة العالمية في مجال تحرير التجارة والخدمات ومن ثم نتطرق إلى خصوصية قطاع الاتصالات.
في هذا العدد سنسرد نبذة تاريخية عن تحرير التجارة في السلع، ثم نتلوه بنبذة تاريخية عن تحرير التجارة في الخدمات (جولة أوروجواي)، ونختتم ببداية مناقشة تحرير قطاع الاتصالات أمام منظمة التجارة العالمية.
وقد عاش الاقتصاد العالمي بعقود عدة من الهدوء النسبي قبل الحرب العالمية الأولى، سواء من حيث التجارة الدولية أو العلاقات النقدية، خلال السنوات ما بين 1860-1913، حيث تمحورت علاقات التجارة العالمية حول عدد من المعاهدات التجارية الثنائية، كان فيها كل بلد حراً في تحديد وتغيير قانون التعرفة الجمركية دون وجود أي تعاون متعدد الأطراف أو آلية رقابة.
وفي ختام الحرب العالمية الثانية، بدأ ثلاثة وعشرون بلداً، من أبرزها الولايات المتحدة، وكندا، والمملكة المتحدة، بالتفاوض على الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة.
واستهدف هذا التفاوض إنشاء اتفاق من شأنه ضمان الاستقرار الاقتصادي بعد الحرب وتجنب تكرار أخطاء الماضي القريب، حيث كانت الرسوم الجمركية في نظر الداعين لهذه الاتفاقية السبب الرئيس في تخلف الاقتصاد الدولي، ومن هنا جاءت الدعوة إلى اتفاقية الجات 1947 لتكون قالباً أساسياً جديداً من القواعد والاستثناءات لتنظيم التجارة الدولية بين أعضاء الاتفاقية بهدف خفض التعرفة الجمركية.
وقد كان الدافع الأساسي لإنشاء اتفاقية الجات محاولة تلافي آثار كارثة ما بين الحربين العالميتين، والتي شملت سلسلة من الإخفاقات الاقتصادية المحلية، فكان لابد من تصور جديد للنظام النقدي الدولي يدحر الحواجز التجارية وينهي السياسات التجارية التمييزية من أجل تجنب امتداد الفشل إلى الاقتصاد العالمي وإبعاد شبح الكساد.
وقد بدأ اتفاق الجات بثلاثة وعشرين بلداً هي أستراليا، بلجيكا، البرازيل، بورما (ميانمار)، وكندا، وسيلان (سريلانكا)، شيلي، الصين، كوبا، تشيكوسلوفاكيا (جمهورية التشيك وسلوفاكيا)، فرنسا، الهند، لبنان، لوكسمبورغ، هولندا، نيوزيلندا، النرويج، باكستان، جنوب أفريقيا وروديسيا الجنوبية، (زيمبابوي)، سوريا، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، ومن ثم وعلى مدى سبعة وأربعين عاماً، انضمت المزيد من الدول إلى اتفاقية الجات، وأعقب ذلك إجراء مزيد من مفاوضات تحرير التجارة.
وشرعت الأطراف المتعاقدة في الجات بين عامي 1947 و1994، في الانخراط في جولات تفاوضية جديدة بلغ عددها ثماني جولات بغرض تحرير التجارة الدولية، وقد تكللت هذه الجهود بجولة أوروغواي، التي أنهت حقبة الجات في عام 1994 وفتحت الباب أمام إنشاء منظمة التجارة العالمية والتي ازداد عدد أعضائها ليبلغ 150 دولة.
وكان الغرض من اتفاقية الجات، كما جاء في ديباجتها، المساهمة في رفع مستويات المعيشة والعمالة والدخول في ترتيبات متبادلة موجهه إلى خفض كبير في التعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز التجارية والقضاء على التمييز في التجارة الدولية.
أما فيما يتعلق بالمبادئ الأساسية لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية فهي لا تقتصر على مبدأ عدم التمييز، والشفافية والنزاهة الإجرائية، بل يمكن أن تكون العناصر الرئيسة التي من شأنها تعزيز نظام تجاري دولي فعال وذي مصداقية، وقد تم إدراج هذه المبادئ في اتفاق منظمة التجارة العالمية حتى يوجد للتجار والمستثمرين فرص متكافئة في المنافسة، الأمر الذي يساهم في تعزيز التدفقات الاستثمارية والتجارية.
ويشير مبدأ عدم التمييز في منظمة التجارة العالمية إلى عنصرين: عنصر الدولة الأولى بالرعاية ومبدأ المعاملة الوطنية.
أما عن مبدأ الدولة الأولى بالرعاية فيمكن من خلاله وضع ترتيبات تعاون ثنائية وإقليمية يتم بموجبها التعامل مع بعض الدول على أساس تفضيلي. أما مبدأ المعاملة الوطنية فهو التزام عام في اتفاقية الجات، يشير إلى المساواة في المعاملة بين المنتجات المحلية والأجنبية.
فيما يقصد بمبدأ المعاملة الوطنية معاملة الشركات الأجنبية (وسلعها وخدماتها) بنفس معاملة الشركات المحلية في السوق المحلية دون أي تمييز حسب جنسية السلعة محلية كانت أم مستوردة.
وتشمل الشفافية نشر القوانين واللوائح والمبادئ التوجيهية ذات التطبيق العام، وكذلك الاستثناءات والإعفاءات وضمان أن تكون هذه الوثائق متاحة للجمهور إما في الجريدة الرسمية أو في مجلة في شكل إلكتروني على موقع على شبكة الإنترنت، وتنطوي أيضاً على التزام بإخطار منظمة التجارة العالمية بهذه المسائل.
أما الإنصاف الإجرائي فمضمونه أن تمكن الأطراف التي تواجه قرارات السلطات وتتخذ بحقهم العقوبات، من كافة تدابير الدفاع عن أنفسهم بما يشمل
توجيه إخطارات رسمية لهم عند التحقيق، تمكينهم من تقديم الأدلة والوثائق، وعرض وجهات نظرهم، تمكينهم من حق الاستئناف وحماية المعلومات السرية المقدمة إلى السلطات.
وبعد إنشاء منظمة التجارة العالمية أصبحت اتفاقية الجات واحدة من الاتفاقات المتعددة الأطراف الملحقة باتفاق منظمة التجارة العالمية، وهي معاهدة دولية ملزمة لجميع الأعضاء في المنظمة.
ويشتمل نطاق تطبيق اتفاقية الجات 1994 على التجارة في السلع فقط، وقد امتد اهتمام الدول الأعضاء إلى مزيد من التحرير ليشمل تجارة الخدمات، مما حدا بهم إلى التفاوض حول اتفاقية دولية تعنى بتنظيم تجارة الخدمات وقد تكللت جهود المتفاوضين بالنجاح من خلال الاتفاق على الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات (الجاتس) وهو ما سيكون موضوع المقال الثاني بإذن الله.
التعليقات