في المقالة الماضية تحدثنا عن إنشاء منظمة التجارة العالمية التي كان لها الدور الأكبر في اتجاه الدول إلى تحرير العديد من قطاعاتها الاقتصادية، تماشياً مع موجة العولمة والخصخصة التي اجتاحت اقتصادات الدول واتساقاً مع متطلبات النظام العالمي الجديد.
كما سردنا نبذة تاريخية عن تحرير التجارة في السلع، أما في هذا العد فسنسرد نبذة تاريخية عن تحرير التجارة في الخدمات (جولة أوروجواي).
في البداية، خضع تنظيم التجارة العالمية في الخدمات قبل إنشاء اتفاقية الجاتس لاتفاقيات ثنائية وإقليمية، فعلى سبيل المثال عقدت الولايات المتحدة عدداً من معاهدات الصداقة والتجارة، والملاحة نظمت تقديم خدمات معينة بين الولايات المتحدة ومن وقع معها من البلدان وتمحورت هذه الخدمات حول الطيران، والشحن، والاتصالات، كما وتضمنت اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكندا، فصلاً عن التجارة في الخدمات.
ووجدت بعض الكيانات الدولية المعنية بالخدمات مثل الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) وكان محور اهتمامه الأساسي تخصيص الطيف الترددي ومدارات الأقمار الاصطناعية، ولجنة بازل للرقابة المصرفية، منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) والمنظمة البحرية الدولية (IMO) المسؤولة عن اتخاذ تدابير تحسين سلامة وأمن النقل البحري الدولي.
وساهمت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، في إنشاء قواعد تعلقت بتحويلات الأموال وألغت بعض القيود على التدفقات النقدية وهي جميعاً من الخدمات.
إلا أن الثورة التكنولوجية فتحت الأسواق الخارجية بشكل كبير جعل ما سبق من جهات وقواعد غير كافٍ لتنظيم الثورة الجدية في النظام التجاري العالمي، خصوصاً في مجالي الاتصالات والخدمات المالية، بشكل دفع بعض البلدان (وخاصة النامية منها) إلى سن أو التهديد بسن قوانين تشكل حواجز جديدة لضمان سيطرتها على قطاعات الخدمات الأساسية،وهو ما يضمن إبعاد الشركات الأجنبية عن قطاعات تعد استراتيجية للاقتصاد، مما يشكل عوائق جديدة ضد تحرير التجارة العالمية، الأمر الذي حدا بالولايات المتحدة في يونيو 1986، إلى تقديم اقتراح تضمن شروطاً واضحة لإجراء مفاوضات بشأن التجارة في الخدمات، وهو ما شكل الخطوة الأولى في إنشاء الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات (الجاتس).
وتكللت هذه المفاوضات بالنجاح وأبرزت إلى العالم الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات والتي انتهت مفاوضاتها في 15 ديسمبر 1993، حيث تم التوقيع على الوثائق النهائية في يوم 15 أبريل 1994 في مراكش، المغرب.
وتعد اتفاقية الخدمات أحد الإنجازات التاريخية لجولة مفاوضات أوروغواي، وقد دخلت حيز التنفيذ في يناير عام 1995، وتكمن أهمية الاتفاقية في أن الخدمات تمثل أكثر من ستين في المائة من الإنتاج والعمالة العالميين، وقد صادق جميع أعضاء منظمة التجارة العالمية على اتفاقية الخدمات.
واستهدفت اتفاقية الجاتس إنشاء نظام موثوق لقواعد التجارة الدولية، ضمان المعاملة العادلة والمنصفة لجميع المشاركين (مبدأ عدم التمييز)، تحفيز النشاط الاقتصادي العالمي، تعزيز التجارة والتنمية من خلال التحرير التدريجي للتجارة.
ولم تعرف اتفاقية الجاتس الخدمات وإنما حددت أربعة أساليب لتوريد الخدمات فبينت المادة (1/2) من الاتفاقية أن تجارة الخدمات هي توريد الخدمة حسب أي من الأساليب الأربعة التالية:
أولاً: من أراضي عضو ما إلى أراضي أي عضو آخر. وذلك للدلالة على أنه لا يتطلب الانتقال المادي لمقدم الخدمة أو لمستهلكها من بلده إلى بلد الطرف الآخر وأمثلة هذا الأسلوب كثيرة، بالنظر إلى أنه يغطي مجالاً متزايد الاتساع للنشاطات الخدمية التي يسهل النمو المتسارع في تكنولوجيا الاتصالات عن بعد، تقديمها بواسطة وسائل إلكترونية- وليست آلية وفي مقدمتها الإنترنت.
ومن أمثلة تقديم الخدمات بهذا الأسلوب البريد الدولي والاتصالات التليفونية والتليغرافية الدولية، ونقل الرسائل والصور والرسومات عبر أجهزة الفاكس، ومن الأمثلة اليوم والشائعة للخدمات التي تقدم بهذا الأسلوب الخدمات المالية، من تحويلات للمبالغ النقدية من بين الحسابات وغير ذلك.
ثانياً: من أراضي عضو ما إلى مستهلك الخدمة في أراضي عضو آخر، حيث ينتقل مستهلك الخدمة التابع لبلد من البلاد الأعضاء إلى أراضي العضو الذي تقدم هذه الخدمة فيه. والأمثلة هنا أيضاً كثيرة، ومنها تقديم خدمة السياحة في أراضي أحد البلاد الأعضاء لمستهلكيها من السائحين من البلاد الأعضاء الأخرى. وكذلك الحال بالنسبة لخدمة التعليم العالي لمستهلكيها من الطلاب من هذه البلاد.
ثالثاً: من خلال التواجد التجاري لمورد الخدمة من عضو ما في أراضي أي عضو آخر. رابعاً من خلال وجود أشخاص طبيعيين من مورد خدمة من عضو ما في أراضي أي عضو آخر.
وقد استثنت الاتفاقية بنص صريح الخدمات التي تقدمها السلطة الحكومية في مادتها الأولى فقرة (3/ب) من نطاق تطبيق اتفاقية الخدمات ووضحت الفقرة (ج) المقصود بالخدمات الموردة في إطار ممارسة السلطة الحكومية، حيث نصت المادة 1/3/ب:" ب. يشمل تعبير (خدمات) جميع الخدمات في كل القطاعات باستثناء الخدمات التي تورد في إطار ممارسة السلطة الحكومية.
ويقصد بالخدمة الموردة في إطار ممارسة السلطة الحكومية (أية خدمة تورد على أساس غير تجاري أو من دون تنافس مع واحد أو أكثر من موردي الخدمات).
ويمكن تقديم العديد من الأمثلة على هذا النوع من الخدمات التي تنهض بها الحكومات حصراً دون أن تتركها لنشاط القطاع الخاص، نظراً لما تمثله من أهمية للصالح العام وما تمتاز به من حساسية مثل خدمات الدفاع والأمن وإدارة السياسة النقدية والضرائب والجمارك والضمان الاجتماعي.
ويعد مبدأ المعاملة الوطنية مبدأ أساسياً في اتفاقية الخدمات، كما هو في اتفاقية التجارة في السلع (الجات) وسائر اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، حيث تتطلب اتفاقية الجاتس من أعضاء منظمة التجارة العالمية منح موردي الخدمات الأجانب من الدول الأعضاء معاملة لا تقل تفضيلاً عن تلك الممنوحة لموردي الخدمات المحليين. باستثناء ما قد تكون الدولة قد التزمت به سابقاً ضمن شروط مبدأ الدولة الأولى بالرعاية. مع اشتراط تطبيق معايير الشفافية المتبعة في منظمة التجارة العالمية عند منح أي إعفاءات أو استثناءات حسب ما ورد في المادة الثالثة من الاتفاقية.
ونصت المادة الثالثة من اتفاقية الجاتس على 1- فيما يتعلق بالإجراءات التي تشملها هذه الاتفاقية، يجب على كل عضو أن يمنح للخدمات وموردي الخدمات من أي عضو آخر، فوراً ودون شروط، معاملة لا تقل رعاية عن تلك التي يمنحها لما يماثلها من الخدمات وموردي الخدمات من أي بلد آخر.
2- يجوز لأي عضو أن يتخذ إجراءات لا تتفق مع الفقرة 1 شرط أن يكون هذا الإجراء مدرجاً في الملحق بشأن الاستثناءات من المادة الثانية ومستوفية للشروط الخاصة بها.
وقد كان لخدمات الاتصالات نصيب مهم من اتفاق الجاتس فتضمنت اتفاقية الجاتس ملحقاً تعلق بخدمات الاتصالات وترك أثراً مهماً على النظام التجاري العالمي، نظراً لما تتميز به خدمات الاتصالات عن باقي الخدمات، وقد كان هذا الملحق –كما سيأتي بيانه-موضوع أول قضية اتصالات متعلقة بالمنافسة نظرتها هيئة تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، وموضوع تحرير الاتصالات ضمن منظمة التجارة العالمية سيكون موضوع الحلقة الثالثة بإذن الله.
محمد فاضل لاري
نقلا عن مجلة الحكومة الذكية
التعليقات