في المقالة الأولى من هذه السلسلة التي تتحدث عن دورمنظمة التجارة العالمية في مجال تحريرالتجارة وقطاعالاتصالات الماضية تحدثناعن إنشاء المنظمة التي كان لها الدور الأكبر في اتجاه الدول إلى تحرير العديد من قطاعاتها الاقتصادية، تماشياً مع موجة العولمة والخصخصة التي اجتاحت اقتصادات الدول واتساقاً مع متطلبات النظام العالمي الجديد.
وفي الجزء الثاني من المقالة تحدثنا عن نبذةتاريخيةعنتحريرالتجارةفيالخدمات (جولةأورغواي)، فيما نتناول في الجزء الثالث والأخير من هذه السلسلة بداية مناقشة تحرير قطاع الاتصالات أمام منظمة التجارة العالمية.
في البداية نؤكد أن خدمات الاتصالات تختلف عن غيرها من الخدمات، كما وتختلف عن تجارة السلع اختلافاً كبيراً، فتجارة السلع تنطوي على حواجز جمركية وغير جمركية والتي تواجه المصدر على الحدود في بلد المقصد، وهو أيضاً ما ينطبق تماماً على تجارة معدات الاتصالات السلكية واللاسلكية، إلا أن تجارة خدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية تعني انتقال إشارة الاتصال الكهربائية التي لا تتوقف عند الحدود الوطنية.
ولا بد لهذه الإشارة أن تصل إلى مقصدها لتكون التجارة ناجحة ومحققه لأهدافها، ومن هنا يتبين أن فتح الأسواق أمام التجارة في الخدمات هو أكثر تعقيداً من التجارة في السلع والتجارة في الاتصالات وتحتوي على تعقيداتها الخاصة أيضاً.
ويتطلب توفير خدمات الاتصالات بنية تحتية أساسية ويتطلب التنسيق مع السلطات الأجنبية في بلد المستقبل لضمان وصول الاتصال، كما ويتعرض لعوائق إدارية وفنيه مثل الترخيص والجودة.
وقد شكلت منظمة التجارة العالمية منتدى مناسباً للمفاوضات حول الاتصالات، ففي عام 1986، رأى عدد من البلدان المتقدمة أن المنتدى التقليدي لمفاوضات الاتصالات الدولية، وهو والاتحاد الدولي للاتصالات، لم يعد مكاناً مناسباً لمناقشة مبادرات تحرير قطاع الاتصالات بشكل يراعي مصالح الحكومات الأعضاء في الاتحاد، حيث اقتصر النقاش على الأمور الفنية مثل تقاسم الترددات الراديوية، ومن الجدير بالذكر أن المناقشات الفنية في الاتحاد قد سادها روح التعاون.
وبدأت المناقشات الدولية على تحرير الاتصالات السلكية واللاسلكية في عام 1989، بمبادرة من الولايات المتحدة، حيث كانت أمريكا هي الدولة الأكثر تقدماً من حيث تحرير الاتصالات في ذلك الوقت.
وبعد التوقيع على اتفاقية الجاتس اعتمدت الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية عام 1997 ملحقاً متعلقاً بالاتصالات ضمن اتفاقية الجاتس، حيث اعتمد هذا الملحق من قبل غالبية أعضاء منظمة التجارة العالمية ومن قبل جميع أعضاء منظمة التجارة العالمية الذين انضموا للمنظمة بعد عام 1997.ويحتوي الملحق على التزامات أساسية يمكن إيجازها في إصدار قوانين وأنظمة محددة لتنظيم خدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية، إصدار قوانين للمنافسة ومكافحة الاحتكار وضمان حرية المنافسة بما في ذلك الوقاية من السلوك المناهض للمنافسة، فرض حظر على الدعم في خدمات الاتصالات، فرض حظر على إساءة استخدام المعلومات الحساسة من قبل الشركات ذات القوة السوقية في قطاع الاتصالات وضمان معاملة غير تمييزية، على أساس التكلفة الموضوعية، وتحقيق الربط بين مقدمي خدمة الاتصالات.
وقد كان هذا الملحق أساس أول قضية متعلقة بالمنافسة تنظرها لجنة المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية WTOفي ما عرف بقضية الاتصالات المكسيكية بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك في أول قضية مكافحة الاحتكار ضمن منظمة التجارة العالمية.
وبعد انتهاء جولة أوروغواي انتقلت مسألة تحرير تجارة الخدمات وبالذات الاتصالات إلى مفاوضات جولة الدوحة وجرت مفاوضات معقدة ومكثفة نقلت التجارة في الخدمات إلى صدارة جدول أعمال التنمية، وشملت المناقشات ركائز تعلقت في تأكيد جديد على الحاجة إلى ضمان الوصول إلى الأسواق، وعدم وجود التزامات من قبل الحكومات للشركات الوطنية القائمة بحماية أسواق محددة في تجارة الخدمات.
واستمرت محاور المفاوضات لتشمل حركة رأس المال واليد العاملة عبر الحدود، ومنح الحقوق لموردي الخدمات من الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، إضافة إلى منح الحقوق لموردي الخدمات من الأعضاء الآخرين في منظمة التجارة العالمية، والسماح بالملكية الأجنبية والسيطرة في قطاع الاتصالات، وهو قطاع ذو أهمية كبيرة في أي اقتصاد وطني.
كما وشملت المفاوضات عدداً من الالتزامات الأخرى مثل الالتزامات التي تستلزم الإصلاحات القطاعية المحلية مثل إنشاء هيئة تنظيمية لقطاع الاتصالات في الدول الأعضاء، واصدار التشريعات المنظمة لها ووضع معايير واضحة للترخيص المشغلين تحت طائلة الخضوع إلى آلية تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية.
وحتى شهر أكتوبر من عام 2003، كانت 105 من الحكومات المنضمة إلى منظمة التجارة العالمية (بحساب حكومات الاتحاد الأوروبي كل على حدة) قد قدمت التزامات محددة في بعض أو جميع جوانب قطاع الاتصالات، كان منها 89 حكومة قدمت التزامات تتعلق بالوصول إلى الأسواق.
وتجدر الإشارة إلى أن عضوية منظمة التجارة العالمية لا تفرض تلقائياً تحرير التجارة في خدمات الاتصالات، بل يجب على أعضاء منظمة التجارة العالمية أن يتبنوا صراحة التزامات تحرير خدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية، ويتم ذلك إما كجزء من حزمة انضمامها، أو فيما بعد الانضمام.
وبذلك يتبين أن طبيعة التزامات الدول الأعضاء بمنظمة التجارة العالمية لا تستمد فقط من الالتزامات المحددة لخدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية، بل من الاتفاقات المتعلقة بإنشاء منظمة التجارة العالمية والاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات (الجاتس) وهي جميعاً خاضعة لنظام تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية.
محمد فاضل لاري
نقلا عن مجلة الحكومة الذكية
التعليقات