"العفريت يصل المحروسة".. هكذا تصدرت عناوين الصحف المصرية في أول أغسطس عام 1896، حين دخل التروماى شوارع المحروسة بالقاهرة، قيل عنه إنه العفريت الذى يسابق الريح، ذلك الاختراع الجديد الذى أبهر المصريين وصار أكبر شاهد على تاريخ مليء بالأحداث في كل المجالات، أعتقد أنه الساحر الذى حول القاهرة إلى عاصمة تملؤها الحياة، كم تمنيت أن أعاصر ذلك التاريخ وتخيلت كثيرًا أنني هناك، هل أنا أشعر بالنوستاليجيا؟ أتوق إلى العودة إلى الماضي؟
ربما لكثرة ما شاهدته من الأفلام المصرية القديمة..
خيل إلىّ أنني امتطيت ذلك الترام وأطلقت العنان لخيالى، من هناك؟ إنه محمود أفندى عبدالتواب الموظف بالدرجة الخامسة بإحدى شركات الملابس المعروفة ـ آنذاك، تبدو عليه ملامح الفقر، ولكنه لا يكترث لذلك، فهو حريص على إبراز المنديل على جانب سترته المتهالكة، وفى بعض الأحيان يضع وردة تبدو هي الأخرى متهالكة أو ربما تعيسة، ولكنه غير تعيس مثلها، اليوم خرج محمود أفندي صباحًا كعادته تاركًا بيته المزدحم بكل أفراد العائلة بعد أن وضعت زوجته مولودها الرابع، إنه ليس ببيت عادي، أعتقد أنه السيرك القومي أو ربما يكون مبيتًا لفرقة فنون شعبية، أخذ يتدلى على الدرج بخطوات شبه مرتعشة حتى لا يراه صاحب العقارالذي يقطنه ويبدأ بمطالبته بالمستحقات المتأخرة عليه، وبالفعل فلت منه بأعجوبة هذه المرة، وبعد أن نجح في الخروج أخذ يتنفس الصعداء، المصيبة أنه استنفد وقتًا ليس بقليل إلى أن خرج، ما يعني أنه سيتأخر على عمله كالأمس، ولن يسلم من لسان جناب المدير وربما سيخصم من راتبه مثلما حدث الشهر السابق، فكيف إذًا سيبتاع مستلزمات سبوع مولوده الجديد.
تراه الآن يركب الترام بعد يوم طويل محمل بالعناء، قام فيه بتطبيق ورديتين بالشركة، وما أن دخل وقعت عيناه على تلك الجميلة التي تجلس جانب النافذة، فَعَدّل من شاربه المبروم الذي يقترب في الشبه كثيرًا من شارب شارلي شابلن، وقام بضبط طربوشه وإعادة ربطة عنقه إلى مكانها، ولم ينسَ منديل سترته ليأخذ حقه هو الآخر من التعديل، ثم اقترب بمنتهى الأريحية من السيدة الجميلة هامسًا "بنسوار يا هانم"، لم أشعر بنفسي وأنا أيضًا أهمس بجملة الرائع الراحل "عبد المنعم إبراهيم" الشهيرة "يالك من شنقيط" واستفقت على صوت ابنتي الصغرى "بتكلمي مين يا ماما".
التعليقات