لا تعني دراسة العلاقة بين الفساد والجريمة التنظيمية بحثاً في مشكلة يكتنفها الغموض وتحتاج إلى تحليل وعرض للأدلة المقنعة التي تؤكد أو تنفي تلك العلاقة بقدر ما هي بحثاً يهدف إلى إيجاد الحلول والمعالجات ووضع آليات مكافحة الفساد السيبراني والفساد المؤسسي والوقاية من ظاهرتين هما وجهان لعملة واحدة.
تكمن تلك الحلول في المقام الأول في تفكيك تلك العلاقة وقطع الحبال السِّرية التي ترتبط بينهما وتعزز انتشارهما.
فالعلاقة بين الفساد والجريمة التنظيمية هي علاقة روح بجسد كل منهما يُشكل عموداً فقرياً للأخرى. الجرائم التي صنفت كأنماط من جرائم الفساد هي جرائم منظمة يلعب فيها التنظيم الهيكلي للكيانات الإدارية دوراً في الفساد وبناء قنوات تنظيمية للتواصل مع المفسدين.
بيد أن هنالك ضرورة لبيان العلاقة بين الفساد والجريمة التنظيمية بالتركيز على العناصر العامة المشتركة من منظور فني وآخر قانوني وثالث شرعي ، وما يترتب على ذلك من اختلاف في تدابير المكافحة وبرامج الوقاية من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى في عالم تقاربت فيه المسافات وتداخلت فيه المصالح وتعددت فيه الصراعات الثقافية.
ومن المعروف أن عصابات الجريمة المنظمة تُمارس جرائمها من خلال ما يلي:
أولاً : ارتكاب الجرائم المنظمة التقليدية مثل الاتجار في المخدرات ، الاتجار بالجنس ، غسيل الأموال ، تجارة الأسلحة ، جرائم القتل المأجور وجرائم الابتزاز.
ثانيـاً : استقطاب الموظفين العموميين ورجال إنفاذ القانون على وجه الخصوص وإغوائهم والسيطرة عليهم بشتى الوسائل ابتداءً من منحهم فرص الدخول المجاني وتقديم هدايا من الشراب والطعام وانتهاءً بالإغراءات المالية الكبيرة ووصولاً إلى ضمان تعاونهم عند تنفيذ الجريمة.
ثالثـاً : استقطاب ذوي العقول من الشباب والسيطرة عليهم بمختلف المغريات ومن ثمَّ استغلالهم في الجرائم المستحدثة التي تُستعمل في تنفيذها التقنيات العالية ، خاصة في مجال المؤسسات المصرفية والدوائر الحكومية وقواعد البيانات الهامة وتقنيات المجال السيبراني.
رابعاً : دعوة رجال الأعمال والسياسة وكبار الشخصيات بمختلف الوسائل وإدماجهم في جلسات اللهو مع النساء والشباب الشاذين جنسياً والتقاط صورهم في مواضع مشينة تُستخدم لاحقاً في الابتزاز والاستغلال.
خامسًا : جذب رجال الشرطة في دائرة الاختصاص وإرضائهم بالهدايا والرشاوى حتى يكون لهم عوناً عند الضرورة.
وإذا رجعنا إلى الجريمة المنظمة بأنماطها المستحدثة أي تلك التي تُستخدم فيها التقنيات العالية للمعلومات والاتصالات فإننا نلاحظ أنها باتت اليوم في حاجة إلى معرفة علمية تتجاوز القدرات الذهنية لأعضاء عصابات الجريمة المنظمة التقليدية الذين كانوا يأتون من الطبقات الضعيفة في المجتمع والذين لم ينالوا قدراً من التعليم والذين لا يملكون شيئاً يخسرونه في مجتمعاتهم. ولاشك أن أشخاصاً هذا شأنهم عاجزين تماماً عن التعامل مع النظم الحديثة المستخدمة في المعاملات التجارية والمؤسسات المصرفية وبرامج الحكومات الإلكترونية والأمن السيبراني ، التي أصبحت سمة هذا العصر في كافة المعاملات داخل الدول وعبر الحدود الدولية.
لذا أصبح لزاماً على عصابات الجريمة المنظمة أن تمارس الجرائم السيبرانية لفك خوارزميات التشفير بتقنيات وأدوات أكثر تطوراً وأن تخترق المؤسسات العامة ومؤسسات القطاع الخاص لتكملة المعاملات الخاصة بعمليات الجريمة المنظمة. فالجريمة المنظمة بحكم طبيعتها الاقتصادية والتجارية المنحرفة تتطلب المرور عبر بعض القنوات المشروعة مثل عبور المنافذ الدولية والمراكز الجمركية ودوائر الضرائب ووثائق الإثبات وتقنيات النقل والاتصال. وحتى تنساب عمليات الجريمة المنظمة المستحدثة عبر هذه القنوات المشروعة بطرق غير مشروعة ينبغي اختراق تلك الأجهزة والمؤسسات وتجنيد أشخاص يقومون بتقديم التسهيلات المطلوبة.
أبعاد العلاقة بين الفساد والجريمة التنظيمية:
تتضح أبعاد العلاقة بين الفساد والجريمة التنظيمية من خلال دراسة العناصر والأركان التي يتكون منها النشاط الفاسد وأنشطة الجريمة المنظمة المرتبطة بالجرائم التنظيمية .
كما أن للتدابير الوقائية وتفاصيل قضايا الفساد المعلنة تساعدنا مجتمعة على تلمس أبعاد العلاقة بين الظاهرتين. غير أن السرية التي تتميز بها عمليات الفساد التنظيمية تحول احياناً دون اكتشاف أبعاد العلاقة بين الفساد والجريمة التنظيمية كما ينبغي.
من الواضح أن هنالك تشابهاً وتطابقاً لبعض خصائص ظاهرتي الفساد والجريمة التنظيمية مما يعزز الرأي القائل بوجود علاقة عضوية بين الظاهرتين ومن ذلك:
• الجريمة التنظيمية وجرائم الفساد بمختلف أنماطها تهدف إلى الحصول على مصلحة شخصية.
• الظاهرتان تتخذان المال والنفوذ سلاحاً لتحقيق الأهداف.
• لا يستخدم فيهما العنف كما هو الحال في الجريمة المنظمة .
• يستغل الجناة فيها المنظمات والوحدات الإدارية التي يعملون فيها لارتكاب جرائم الفساد بدلاً من المكاتب والشركات الوهمية التي تستغلها الجريمة المنظمة والجريمة التنظيمية.
• تستخدمان التقنيات العالية للمعلومات والاتصالات الخاصة بموقع وظائفهم.
• من خصائص الجريمتين إتباع السرية العالية في المعاملات.
• تجمع بين المتورطين في الظاهرتين صفات ضعف الوازع الديني ، التربية الوطنية والالتزام بالقيم.
يُعد هذا التشابه في آليات الجريمة التنظيمية وجرائم الفساد مدخل للعلاقة المتنامية بين الظاهرتين. فالعلاقة ليست مجرد تداخل في التعريف القانوني والمفهوم النظري فحسب ، بل هنالك تكامل بين الأنشطة الإجرامية المتمثلة في الظاهرتين.
من المؤكد أن الفساد يساعد الجريمة المنظمة كما أن الأخيرة تحفز الفساد من أبواب عدة أهمها:
• سكوت المتورطين في الفساد عن أنشطة الجريمة المنظمة.
• النصيحة والمشورة التي يقدمها الموظفون العموميون لمرتكبي الجريمة المنظمة.
• التسهيلات التي يقدمها رجال إنفاذ القانون لعصابات الجريمة المنظمة في مرحلة التخطيط لارتكاب الجريمة وأثناء ارتكابها وبعد ارتكابها وأثناء تواجدهم في السجون.
• تقديم المعلومات السرية للمجرمين.
• مساعدة مرتكبي الجريمة المنظمة بإخفاء الأدلة والتأثير على العدالة.
وفي المقابل تقوم عصابات الجريمة المنظمة بتحفيز المتورطين في جرائم الفساد عن طريق:
• تقديم إغراءات مالية مُجزية للموظفين العموميين.
• مساعدة الموظفين العموميين الذين يقبلون التعامل معهم بالترقيات وتولي المناصب الحيوية عن طريق نفوذهم في المستويات العُليا وداخل الأحزاب السياسية.
• توفير فرص عمل في حالة تعرضهم للمساءلة والمحاسبة.
• توفير الحماية والدفاع عند تورط الموظفين المتعاونين معهم في جرائم.
• إبراز موظفين متعاونين مع عصابات الجريمة المنظمة كشخصيات هامة في المجتمع كنموذج يحفز غيرهم من الموظفين للانخراط في الفساد المنظم.
الكاتب والباحث الإماراتي
عضو اتحاد كُتّاب وأدباء الإمارات
عادل عبدالله حميد
التعليقات