نَصَ القانون الثالث من قوانين ميكانيكا الحركة للعالم (إسحق نيوتن) على أن لكل فعل ردة فعل مساوية له بالمقدار وتعاكسهُ بالإتجاه ، وهذا القانون مستنبط من التجربة قطعاً وهو بسيط التنفيذ و الشرح، فعندما تُستخدم قوة معينة تجاه شيء ما فإنه يولد ردة فعل ناتجة عن ذلك توازي تلك القوة التي مورست عليه من خلال التفاعل معها سواءً أكانت حركة أو تكسر أو غوص أو إنطلاق.
إن هذا القانون فيزيائي محض ولكننا نستطيع أن نستجرحَ منهُ مفاهيم و نتائج تنحو عن مسرب الفيزياء لتدخل في واقعنا الحياتي و الإجتماعي بشكل جلي و بيِن، فعندما تستخدم ضغط على شخصٍ ما سواء أكان الضغط هذا حسياً أو نفسياً فإنه يتولد لدى الشخص ردة فعل حتمية ، و تندرج تحت هذا المعنى أمثلة شتى، فالنصيحة القاسية و التأنيب و التوبيخ و التحقير و التسفيه و الإرشاد و التحذير و التوجيه و التهديد و التخويف و التجويع و الترهيب و التطمين و الترغيب كلها أمثلة على ذلك ولكن خشيةَ إزجاء الوقت سنكتفي بهذا القدر منها.....
لطالما كان للرواية و القصيدة و الخطابة دور كبير في إحداث الفعل أو ردة الفعل سيان أياً يكن المسمى ، ففي عام 1990م أطلق (جوزيف ناي) أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد مصطلح (القوة الناعمة) كأول مرة ، وبعد دراسات و أبحاث كثيرة و رجوع للتاريخ المعاصر و القديم اكتشف بأن للقوة الناعمة تأثير لا يقل أبداً عن التأثير الذي تُستخدم فيه القوة الخشنة إن صح لي التعبير ، لذلك بادر لإستخدام هذا المصطلح السياسي الإجتماعي و الذي تندرج تحت مظلته كل ما يمكن له أن يُحدِث تغيير عبر قوة هادئة ناعمة بسيطة قليلة التكلفة ، حيث لا يُحرَكُ بها جنود و أساطيل و لا تُستخدمُ بها أسلحة و لا تُزهقُ فيها أرواح.
ولنا أن نصهر في بوتقتها كل ما نرغب كأن نشرحها عبر مسميات عدة و على سبيل المثال لا الحصر كأن نقول : تأثير الإعلام عبر وسائلهِ المتعددة أو تأثير الأدب أو تأثير الطقس على أمرٍ ، فمثلاً عندما اجتاح الجيش النازي الألماني الإتحاد السوفيتي فيما يسمى بعملية (بارباروسا) عام 1941م و احتل الألمان أجزاء كبيرة جداً من الإتحاد السوفيتي ، رأى ستالين بأن الألمان سينهزمون لا محال و قال ببساطة بأن زمهرير روسيا القارس سيدحر الغزاة و هذا فعلاً ما كان ، حيث واجه الجيش النازي برداً لا يحتمل ولم يكونوا معتادين عليه حيث فتك بمعظم جنودهم و دحرهم فيما بعد ، ولا أعلم تماماً إن كان صحيحاً أن أُدرج برد روسيا تحت مظلة القوى الناعمة ، لكنني أراها كذلك فهي قوة غير مكلفة أبداً ساقتها الأقدار و الصُدف بأن تدحر جيشاً غازياً بتكاليف معدومة ....
ما سبق كان مثالاً بسيطا عن القوى الناعمة للطبيعة و لربما إذا ما أمحصنا البحث بالتاريخ قد نجد أمثلة كثيرة جعلت من المناخ و التضاريس عوامل قوة خفية ساعدت في ذب الغزاة أو في الهجوم عليهم ..
كذلك ثمة قوة ناعمة أراها بمنتهى الأهمية لما لها من وقع بالتأثير و النتائج ألا و هي (فنون الأدب) وما يحتويه من شعر و مسرحية و رواية و خَطابة ، و هنالك نماذج عديدة أتطرقُ لسردها ، فمثلاً في عام 1852م نُشرت رواية في الولايات المتحدة الأمريكة إسمها (كوخ العم توم ) لكاتبة أمريكية غير مشهورة إسمها (هيريت ستو)،حيثُ حققت هذه الرواية انتشاراً كبيراً وسط أوساط المجتمع الأمريكي و بطل الرواية هو العم توم البسيط ذو الأصول الإفريقية و الذي يعملُ عبداً عند أسياده ذوي البشرة البيضاء ، لتكون هذه الرواية نواة اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية و التي قامت على إثر إعلان الرئيس العظيم (إبراهام لينكولن ) إلغاء العبودية في الولايات المتحدة و يقال بأن الرئيس لينكولن نفسهُ تأثر كثيراً من هذه الرواية حالهُ حال الكثيرين من الأمريكيين الذين قرئوها و تعاطفوا مع بطلها العم توم المسكين ، حيثُ نجحت الكاتبة البيضاء (هيرييت ستو) في خلق خيال حسي هائل للقارئ من خلال التعاطف الشديد مع بطل الرواية ، فمجرد خيال و كلمات و إثراء غزير بالوصف ساعد في اتخاذ قرارٍ جريئ تمثل بتحرير العبيد و الذي أدى لإندلاع الحرب الأهلية بين الشمال الصناعي و الجنوب الزراعي إنتهت بانتصار العدل و كسر قيود العبودية ...
وبنفس القرن (التاسع عشر) نشر الكاتب الروسي العظيم (نيكولاي غوغول) قصة بسيطةِ الكلمات هادئةِ الهدير قليلة الصفحات سماها (المعطف) و كان بطلها (أكاكي أكاكيفتش) هو يشبه العم توم آنف الذكر و لكن أكاكي ذو بشرة بيضاء هذه المرة كبياض ثلج مدينته (سانبطرسبرغ)، في القصة صراع مهول أيضاً ولكن ليس بين العبد و السيد كما في كوخ العم توم ولكن بين طبقات المجتمع الروسي ذي الفروقات الشاسعة ، صراع بين طبقة الموظف المعدم البسيط و الذي يتقاضى روبلات هزيلة جداً لا تستطيع إيقاف صوت قرقعة بطن أكاكي أكاكيفتش و التي جعلتهُ يلبسُ معطفاً رثاً
تعافُ خيلُ الإصطبل أن تدوسه بحوافرها ، إن ذات الخيال الحسي التعاطفي الذي أتقنتهُ (هيرييت ستو) بتجسيد شخص العم توم هو ذاتهُ الذي نجح فيه (غوغول) مع (أكاكي) فلم يقرأ شخصٌ ما هذه القصة إلا و ذرف الدموع في نهايتها على شخصٍ فاضت روحهُ قهراً و كمداً من مجتمعٍ طبقي هرس بأتراسِ أنيابه لحم البسطاء و أحلام المساكين ، ولم يمضي زمن طويل حتى قامت الثورة البلشفية عام 1917 و رفعَ عرابوها (لينين) و (تروتسكي) مقتبسات من قصة المعطف كيما يجيشوا الجماهير خلف ثورتهم لأجل القضاء على عبودية الفقر و الطبقية...
وإذا ما عدنا قليلا للخلف للقرن الثامن عشر نجد خطيب الثورة الفرنسية (ميرابو) يستنفر الجماهير أيضاً و يعبئهم بقوالب ثورية عبر خطاباتهِ و كلماتهِ الرنانة ، حتى و إن كانت خادعة و مبهرجة لما يملكهُ من شخصية غامضة و أخلاقهُ الملئى بالرذائل لكنهُ عبر كلماتهِ نجح بالنهوض بهمم الجماهير و رص صفوفهم و إشعال النبراس الذي أنار طريقهم ....
وللقصيدة الحظ الأوفى و الأثر القوي لما تحدثهُ من نتيجة فقد تقتلع أو تُثبت تُبعثرُ أو تُشذب، حيثُ أرى أثر قوتها الناعم جليٌ و واضح كهجائية جرير المشهورة (الدامغة ) و التي هجا فيها راعي من قبيلة نمير هجاءً جزلاً قوياً و خاصةً في البيت القائل : ( فغُضَ الطرفَ إنك من نميرٍ فلا كعباً بلغتَ ولا كلاباَ) فالعربُ هم أكثر الشعوبِ تفاخراً بالأحسابِ و الأنساب و المساسُ بالعشيرة هو السلاحُ الصاعق الذي ينهالُ على الفرد أو الجماعة فيغدو كحمم بركانٍ حارق و هذا ما استخدمهُ جرير مع قبيلة نمير حينما سخر من مكانتهم عند العرب فما كان من القبيلة إلا أن رحلت عن مضاربها هرباً من سخرية الآخرين
و جميعُ أفرادها تكيل الشتائم لإبنها الراعي الذي إستثار غضب الشاعر الفحل فحملهُ لهجاءٍ اقتلعهم من أرضهم بدون رماح أو سهامٍ أو سيوف...
إن حياتنا اليومية تخضعُ كثيراً لهذه القوى الناعمة ، فإقناعُ الإبن و ترويجُ البضائع و تشويه السمعة و خداعُ الناس و تحسينُ الإنطباع و كسب الود و إحلالُ الثقافة و تغيير الذائقة و مهاجمة العادات و إظلامُ الفكر و تحديثُ العقل و هدمُ الصرح و تبديدُ الثروة و تشتيت الهدف وملئ الوقت و غيرها و غيرها من المسميات لو لم يكن فيها قوة ناعمة لما نجحت و اعتلت صهوة الزمان و المكان معاً.
التعليقات