"الفقر.. هو الذى صنع عددًا كبير ًامن أثرياء مجتمعنا".. تلك الجملة الصادمة، الغريبة فى تركيبها، هى واقع حقيقى لدينا، فقد صنع الفقر عدد كبير من أثرياء بلدنا .. لقد ظهر "أثرياء الروبابيكيا" وأصبحت الملايين لديهم أرقام لا تجعل القلب يجفل، فتجد هذا الرجل الذى يرتدى جلبابًا قصيرًا لونه غالبًا ما يكون بنى داكن أو أخضر بلون الخيار .. (أى لون يتناسب مع مستوى متدنى من الذوق العام).
وكثيرًا ما تجد بقع سمراء صغيرة متناثرة على حِجر هذا الثوب وكأنها نمل ضل طريقه، لو تأملتَ أكثر لعلمتَ أن هذه البقع السمراء ما هى إلا حروق صغيرة فى الثوب .. لأن هناك شرر تطاير من جمر النارجيلة وهبط ليصنع هذه الثقوب السمراء، لا يهتم أحدهم بهذه الحروق، لأنهم لا يهتمون أصلاً بأراء الآخرين فيما يلبسونه أو فيهم بشكل عام، يبدو ذلك من أقدامهم الموضوعة فى شباشب قديمة وقد ظهرت شقوق كعوبهم بشكل ملفت للأنظار، كذلك ستجد أظفار أياديهم متسخة، وبشرتهم لزجة مما عليها من طبقة دهنية تتراكم مع عرقهم الغزير.
ليس من اللطيف أن أعدد صفات تلك الفئة التى أمقتها .. فمن اللطيف أن نذكر ما يتميز به الحبيب .. ما تتميز به الزهور من روعة .. لكن للحق والإنصاف هذه الفئة تحاول الظهور فى المناسبات بمظهر لائق يتناسب مع طبيعة المكان ورواده، فلو كانت مناسبه حفل زواج بين أبناء الطبقة العليا مثلاً، تجد صاحبنا الثرى وقد ارتدى بدلة داكنة اللون وغالباً تكون فضفاضة والقميص من تحتها يدلى بطرفيه فلا يستطيع أحدهم أن يدخل قميصه فى البنطلون فيبدو الكرش متكورًا بارزًا عبر فتحات مثل قوسين مغلقين بين أزرار القميص، ثم إنك ستعرفهم بدون عناء لو تأملتهم على هذه الشاكلة أو ستجد ياقة القميص تعلو ياقة الجاكت .. أو ياقة الجاكت نفسها فى غير وضعها الطبيعى أو نصف مقلوبة .. أما إن كان حفل الزواج فى منطقة شعبية فستجده يرتدى جلبابًا واسعًا وقد لمع شعره لكثرة ما عليه من كريمات، ومعظم الوقت ستجده يرفع يده كى يخفف من عبء طرف كم الجلباب على كف يده و أيضا ليتيح الفرصة لإظهار الساعة الذهبية باهظة الثمن، وستتعرف عليه من عينيه التى تدور فى المكان لتحصد ردود الأفعال على أناقته التى يشعر بها.
وسوف تتعرف عليه من عدد الموبايلات التى يضعها أمامه لتدلل على كثرة معارفه وانشغاله الدائم، وستتعرف عليه إن تحدث فى تليفونه المحمول لأنك ستجده يتحدث، بصوت مرتفع، عن صفقات وعلاقات وسوف ينعت مَن يتحدث إليه بمعالى الباشا الكبير أو يلقبه برتبة عسكرية كبرى أو يطلق عليه لقب الفنان الكبير وعينيه لن تكفا عن الدوران بحثًا عن عيون نسائية معجبة، وسوف تتعرف علي "أثرياء البيكيا" في يسر لأنهم أول مَن يبارك أفعال القيادة السياسية، باللافتات مزركشة الألوان، وإن لم يعلموا فحوى هذه الأفعال.
وأيضاً هم أول مَن يظهر فى سرادقات الحملات الانتخابية و قد يمولنها، و هم أول يقيم الأفراح ابتهاجاً بنجاح فلان فى هذه الانتخابات. وتعرفهم بسهولة من أفعال يتقربون بها إلى الله و يعلنون ذلك على لوحات ضخمة، فهم أصحاب العديد من موائد الرحمن فى رمضان، وهم أصحاب أضاحى عديدة فى العيد، و هم مَن يغمسون أياديهم فى دماء الأضاحى الساخنة ثم يطبعون بأكفهم على الجدران الأمامية للمنازل وعلى مقدمة السيارات "خمسة وخميسة"
عموماً معظم اهتمام فئة أثرياء البيكيا هى تناول الكثير من الطعام وخاصة الأطعمة التى تساعد فى عملية الجنس واهتمامهم الثانى هو تكديس الذهب فى أيادى نساءهن للتباهى بالثراء.
لكن كيف صنع الفقر هؤلاء؟
حالة الفقر الدائمة التى نعيش فيها (بالرغم من التطور الرهيب الذى جعلنا نشاهد ونحن على أسرتنا كيف يعيش العالم من حولنا، وكيف يحصل كل فرد على حقه الطبيعى فى الحياة) خلقت منا كائنات أليفة يسهل ترويضها، دائما ما يؤكدون لنا أنه يكفى لنا مجرد العيش ويكفينا الشعور بالأمان. لامجال لحديث عن حالة الفقر حتى أصبحت حالة عادية مستساغة.
مستساغة لأنه طبيعى أن تُولد لأبوين فقيرين .. وتحيا فقيراً .. وتؤسس أسرة فقيرة .. وتموت فقيرًا تاركًا أولادًا فقراء، "أولاد كلب"لم يدرك أن فقره ورث كئيب .. فإن لم يضمن حياة طبيعية لأولاده ما كان عليه أن يأتى بهم إلى هذه الدنيا .. لقد أجبرهم على الاتيان وسوف يجبرهم على معيشة الفقر.
طبعًا كان وقتها متعلقًا بأحلام نجاح الأبناء لانتشال الأباء من حالة الفقر التى عاشوها، لكن تلك أحلام ولا يتحقق منها إلا حالة واحدة من بين كل مليون حالة، حالة واحدة يغفل عن صعودها الأثرياء، ذلك لأن الأثرياء نادراً ما يسمحون لغريب أن يعيش بينهم .. إلا إن قدم عشرات القرابين.
وقد قدم أثرياء البيكيا عشرات القرابين .. قدموها على صدور العرايا، تحت أقدام البك الكبير .. إنهم امتلكوا الأموال ( التى صنعها الفقر ) ويبقى لهم الحصول على الاعتراف بهم بين الأثرياء، يقدمون القرابين كما كان يُقدم طالب البكوية أو الباشوية فى عهد المملكة.
ألا تذكرون ذلك المشروع الضخم الذى تبنته زوجة الرجل الكبير كنوع من التواجد الاجتماعى بين أفراد الرعية؟ هذا المشروع (وهو مشروع قيم) كان يلزمه المال الكثير، يتقدم أحدهم نافشًا ريشه مثل ديك رومى ويتبرع بمبلغ ضخم يلفت الأنظار .. بالفعل يلفت الرقم نظر الهانم .. تتساءل عن صاحب التبرع؟ أخبروها عنه .. ابتسمت .. فى التعديل الوزارى الجديد يحصل هذا المتبرع على لقب وزير على رأس وزارة من أهم الوزارات.
الفقر هو البداية .. الفقراء لا يستطيعون شراء سلع ذات جودة مرتفعة لأن تلك أسعارها لا تناسب دخلهم، يشترون المنتجات إعادة التصنيع .. سواء من الزجاج أو البلاستيك أو المنتوجات الورقية .. فلن تجد فقيرًا يشترى أكوابًا مصنوعة من زجاج درجة أولى، فى حين هناك أكواب إعادة تدوير سعرها مناسب و لا يتعدى واحد بالمائة مقارنة بسعر المنتج المتميز.. ولن تطهى فقيرة الطعام فى أوانِ من السراميك أو البورسلين!! ولن يشترى فقير لأولاده كراريس أو كشاكيل من ورق فاخر، المنتوجات الورقية وإن كانت إعادة تصنيع أسعارها مرتفعة .. ما بالنا بالورق الفاخر !!
ولأن الفقراء كُثر فقد راجت تجارة الأشياء إعادة التصنيع، وبالتالى زادت مصانع التدوير، فزاد الطلب على تُجار الروبابيكيا .. جندوا جيشًا من العمال يبحثون فى أكوام القمامة فى الأحياء الشعبية والقرى والصناديق المخصصة للقمامة فى الأحياء الأكثر تمدناً .. يتم فرزها بدقة متناهية .. يصنفونها الزجاج فى جانب والبلاستيك فى جانب والأشياء الورقية فى جانب آخر .. هناك أماكن مخصصة لإعادة الفرز والغسيل قبل أن يتوجه الإنتاج إلى المصانع كل فى تخصصه، لتخرج المنتجات مرة أخرى كى تُباع إلى الفقراء.
الحقيقة أن تجارة المنتجات "إعادة تصنيع" رائجة بشكل جعل من عمال البيكيا يصعدون سلم الثراء بشكل سريع، حتى إن معظمهم أنشأ مصنع إعادة تدوير يخصه ليضمن ثراءً أكثر و أكثر ..
كلما مرت السنوات .. زاد عدد الفقراء و زاد الطلب على المنتجات المعاد تصنيعها .. وكل قرش يشترى به الفقراء يصنعون به رقما جديدًا فى حساب الأثرياء.. أثرياء البيكيا .. ولن تجد نشاطهم يتوقف عند الروبابيكيا فحسب .. فطالما توافر رأس المال فسوف ينتشرون فى مختلف المجالات .. فقد اشترى منهم عدد كبير شقق سكنية كنوع من الاستثمار .. وحصل منهم عدد أخر على أوراق رسمية لأقاربهم ومعارفهم من الفقراء وتقدموا بها فى قرعة الإسكان الحكومى ودفعوا هم المبالغ المطلوبة، والتى يعجز الفقراء عن توفيرها، وحصلوا على الوحدات السكنية وأعطوا معارفهم الفتات عوضاً عن استخدام أوراقهم الرسمية.
تجد عدد منهم اشترى أراضِ وقام ببناء العمارات عليها وباع بعض الوحدات ليحصل على التكلفة ويحتفظ بالكثير من الوحدات السكنية لبيعها مستقبلاً بأسعار مضاعفة. وعدد غير قليل من "أثرياء البيكيا" أقام مشروعات من نوعية المقاهى المتوسطة المستوى والكافيهات التى تجتذب الطبقة الثرية .. وما يتبقى منهم قد وجد فى تجارة السيارات منفذاً رائعاً لتشغيل رأس المال، فتجده يفتتح معارض فى أماكن متفرقة على مستوى الدولة، قطعة أرض زراعية على جانب الطرق السريعة يقوم بتبويرها وسرقة الكهرباء من أعمدة الطريق التى تتكبد الدولة تكلفتها.
ثم يأتى بصفقات مختلفة من السيارات ويملأ بها المكان، بيع هذه السيارات آخر همه .. لأنه ليس فى حاجة إلى مكاسب ضئيلة .. إنما يتركها شهور وأعوام وأسعار السيارات فى بلدنا ترتفع بشكل جنونى .. وكل الأسعار فى بلدنا ترتفع بشكل جنونى، لأن لا أحد أصبح يقتنع بالمكسب القليل .. المكسب القليل فقط متاح لمن يعمل ويتفانى من الفقراء.. هو مكسب يكفى للمعيشة فقط .ألم أقل لكم أن الفقر .. هو الذى صنع عدد كبير من أثرياء مدينتنا ..!!
التعليقات