فجأةً وبدون سابق إنذار تلجُ سفينتي ذلك المحيط الهادر الغاضب حيثُ تلاطمها الأمواج بغضب، فتارةً تحملها للأعلى ثم برعونة معاكسة تقذفُ به للأسفل، فجميعُ المؤشرات السابقة لم تنذرني بالعاصفة إذ كنتُ أُبحرُ في أمانٍ واستقرار وما أجملها من سماءٍ فيروزية اللون تحفني من الأعلى، وما دوني ذلك البحر الرزين المتناغم بسلاستهِ وبصوتِ إصطفاقهِ لخشب السفينة بكل حنان ، أما لصورةِ النجوم ليلاً مشهدٌ آخر وهي تبرقُ و تتلألأ بجمالٍ أخاذ لا يضاهيهِ سوى جمالِ الصوتِ المنبعثِ من صخبِ صياحِ النوارس فجراً و هي تفردُ جناحيها فوق الصاري و كأنها تسوق لي الترحاب لتكون أولى علاماتِ اقتراب اليابسة ...... حينها المرفأُ الواسع الذي تستريحُ فيهِ سفينتي قليلاً كيما تعاود الإبحارَ من جديد في ذلك البحر اللطيف .....
وبعد الإستراحة تلك تبدل الحال تماماً إذ حل صوتُ عواءُ العاصفة بدلاً عن إصدفاقِ الماء جذعَ السفينة وادلهمَ الليلِ عُتمةً بدلاً عن السماء الفيروزية وتحول البحر الوديع لبحرٍ لجيٍ غاضب يشتت المسير و يطيش بالهدف و يستنفرُ إبرة البوصلةِ الباحثةِ عن شمالٍ متقلب لا تدركه رغم عنفِ تراقصها حول الإتجاهات الثلاث الأخرى ، إنها الفوضى التي أسدلت أجنحتها على المكانِ والزمانِ معاً ، فوضى طاغية ... عنيفة ... شديدة.. وإن لم يسارع الربان بالتحكم بالدفة بهدوءٍ يضارعُ تلك العبثية التي تسود الموقف فحتما ستبتلع الأمواج تلكمُ السفينة لتغوص بها نحو الأعماق حيث المجهول حقاً ولا شيء يبقى سوى ذكريات ماضية كان فيها الشراع يتنفس عليل النسيم اللطيف كي يدفعها مبحرةً في بحرٍ جميل استوحش عنفاً الآن وكسر الصاري والسفينة معاً وأطعمهما لهذا البحر الذي تحول من أنيسٍ محبب لذلك الغادر العنيف ...
ما سبق هو رحلة العمر الذي يفاجئهُ بغتةً وحشُ الأربعين، ذلك الرقم الغريب والذي تبدأُ فيهِ منحنياتُ الزمن تبرزُ بكلِ وضوح لتبدأ معها ذوائبُ الشعرِ تشتعلُ شيبا ، ولتبدأ العين فقدان قوتها لنجد أحداقنا قد انحبست خلف نظارة القرائة، ولتبدأ تجاعيد الوجه تنذرنا بأننا لم نعد ذلك الفتى أو تلك الفتاةِ اليافعة بل دخلنا مبحرين في خضمِ العاصفة آنفةِ الذكر .... إنها الأربعين تشبه تماما ما يخبئهُ الساحر في جرابه فقد يُخرج منهُ أرنباً جميلا يبهجُ بهِ ناظرنا ولربما يخرج منهُ ثعباناً مخيفا يرعبنا ، فلا نعلم أنغني و نضحك أم نبكي و نرتعد....
إنها الأربعين التي حاور فيها المتصوف جلال الدين الرومي أستاذهُ شمس التبريزي وأخبره بأن هذا السن يمثل قمة اليقظة الروحية للنفس من أعماقنا وما تحتويه من مشاعر تسمو في بوتقة الروح و تزهر في عليائها ، حيثُ يرى بأنها السن المناسبة الذي تكتمل فيها مشاعرنا و أحاسيسنا و تتوضح فيه معالم أفكارنا لتصبح تضاريسها أكثر جلاء ....
إنها ذاتُ الأربعين التي شعر بها نزار قباني بأنهُ مراهق من جديد وكسر القوالب المتعارف عليها و ثار على عواصف و عواطف قلبه ليكون في هذا السن أعنفُ بالحب عن ذي قبل وأكثر مغامرةً فيه ....
إنها الأربعين التي وصفها دانتي بقوله:
"في منتصف رحلة حياتي وجدت نفسي في غابة مظلمة فقدتُ فيها دربي الصحيح"، وكأنها مرحلة التيه كما وصفها دانتي والتي تاهت فيها نفسهُ بين دهاليز الحياة وابتلعتها وحشة المسير الطويل و الذي لم يعد يعلم كيف و أين و متى سينتهي به هذا التيه ، و هل سيستمر ضائعاً في الغابة مشتتاً ما بين الحقيقة و الخيال راغباً بأن يمشي الهوينة كي يعود لمساره الصحيح أو يستمر بالضياع ...
هي الأربعين التي جعلها حمزة بن علي وقتاً أصيلاً يدركُ فيهِ المرء بأنهُ قد حان موعدُ فهمِ الحياة والخروج من زمن الجهل لمرحلة الرجولة و تلقي أسس ومبادئ الحكمة الصحيحة بعد سنواتٍ مضت كان العقل فيها يتهيأ للنضوج في عقدهِ الرابع .... هي الأربعين التي قال عنها وليم شكسبير : بأن المرأة تحب في سن الأربعين فقط كي لا تفكر بالشيخوخة ! نعم الشيخوخة ذلك الشبحُ الذي يصبح أكثر خيفةً الآن و نحن لما نزل نطيل النظر بالمرآه محاولين تجاهل الشيب الذي أخذ بالظهور هنا و هناك مقنعين أنفسنا بأن هذا مجرد لون لا أكثر ....
إذاً هي العاصفة الطارئة التي ألمت بالسفية ، عاصفة الأربعين بهوائها و صوتها و مطرها و رعدها و برقها ، و ما عسانا فاعلين سوى مقارعة و مواجهة العاصفة فإما أن تهزمنا و تدخلنا بغياهب أخرى و بتيارات و طرق بحرية غامضة و مجهولة و إما نسيطر على المركب و نشقُ طريقنا وسط هوجاء بحرها الساجر و رعدها الغامر و ننجو من الشَركِ الذي نصبتهُ لنا ، فترانا نمشي فيها الهوينة و نحن مطمئنون .....
عواصف الأربعين هي صوتُ رنةِ جهاز قرائة ضغط الدم و رنةِ جهاز ضبط السكر في الجسم وأنت تحدق بشاشة الجهاز بنهم تنتظر من مؤشرهِ أن يبشرك بقرائةٍ تُبهجك بعد طولِ قلقٍ و ترقب و أنت تقول لنفسك : رباهُ كيف لذلك أن يحدث الآن .... عواصفُ الأربعين هي صوتُ صرير قلم طبيب العيون في لحظةِ صمتٍ و هدوء و هو يكتبُ لك درجة و معيار عدسة القرائة التي ستبقى بجيبك كلما هممت بقراءة شيءٍ ما بعدما كنت فيما مضى ترقبُ و تقرأ جميع لافتات الشوارع بكل سهولة و يسر لكنك الآن كي تقرأ رسالة نصية من هاتفك وجب عليك وضعها .....
عواصفُ الأربعين هي المشاعر الغريبة التي طرأت عليك فجأة ، فما كنت تنشدهُ بالأمس شغفاً عافتهُ نفسك الآن كُرهاً سواءً أكان إنساناً أو مكاناً أو طعام ، و ما كنت تبغضهُ فيما سبق إكتشفت بأنك مخطئ الآن و أصبحت تحتاجه ، هي دفتر الصور و الذكريات التي تقلبها بخيالك فتحذفُ منها ما كان مُبهجاً لك بالأمس لتستبدلها بصورٍ و مواقف سبق و أن هَربتَ منها سابقا و أنت لا تعرف لماذا تغيرت مشاعرُك الآن ، عواصفُ الأربعين هي جنوحك نحو العقل و محاكمتك للأمر بتمعنٍ و روية و ليس كالسابق حيث تغلبُ على قراراتك العشوائية وتتسم مشاعرك باللإندفاع فتكون سريعاً بالحب و سريعا بالكُره أما الآن فقد اختلف الأمر تماماً حيث صيرك عقدُكَ الرابع حليماً أريباً مفكراً لعواقب الشيء أكثر ممحصاً للنتيجة و حسب ، عواصفُ الأربعين هي بداية الإيمان و اليقين بأن الرحيل صار أكثر بهرجةً و وضوح و هذا الطفل الذي في داخلك لم يعد كذلك و هاهي صور الطفولة تمرُ مسرعةً في خيال عينيكِ و كأنها شريطٌ سينمائي فهذه كانت مدرستي الإبتدائية و تلك البقعة ضمت مرتع طفولتي و في هذا المكان إلتقيتُ أولَ مرةٍ بزوجتي و في هذا المنزل كان يقطن صديقي ، فللهِ درها عواصفُ الأربعين ما أتت على شيئ إلا و أحدثت فيه التغير و لما تزل السفينة مبحرة و ربانها في أوج توجسه يترقب مفاجئآت الطريق.
التعليقات