"لا أريد منكِ شيئًا.. أمي كفى عن هذا"...
هكذا كانت ردود "زهرة" على والدتها "رجاء".
سمعتها وأنا فى رحلة عودتي بالقطار من اجتماع عمل، لفتت انتباهي اللغة العربية كأي مغترب تلفت انتباهه لحظة حنين وألفة عندما يسمع حديثا بلغته الأم، كنت فى المقعد الخلفى، فلم أتمكن من رؤية أي منهما، ولا أظنهما تشعران أو تتوقعان أن من بين الركاب من هو من نفس موطنهما أو من يفهم لغتهما، واستمر الشجار الخافت فى صوته، العنيف فى مضمونه، ولاحت لى فكرة عندما اختلست نظرة فضول، فرأيت المقعد المقابل لهما خاليًا؛ فهممّت بالوقوف من فورى لأُشغل ذلك المقعد الفارغ، شعرت أني أريد أن أعطي لهما إشارة إلى أن هناك من يفهم حديثهما، لعلّي بذلك أضع حدا لهذا الشجار، ولكن فى واقع الأمر كان لفضولي دور ليس بصغير فى تلك الفكرة.
رأيت أمًا وابنتها، طفلة فى عمر الزهور، لا تتعدى الثانية عشرة من عمرها، كل شىء فى وجهها متناسق وجميل، شعرها أسود لامع كثيف مسدول على كتفيها، ولها غُرة طويلة بالكاد تظهر عينيها الكحيلتين ذواتا الأهداب الطويلة، كأنها تعزل نفسها عن العالم بتلك الغُرة.. وتلك النظرة الحادة الجامدة.
الأم ذات وجه باسم، لا أظنها تتعدى الخامسة والثلاثين من عمرها، ترتدى حجابًا، يبدو من مظهرها أنها سيدة (مودرن)، يظهر ذلك واضحًا فى حُليها وألوانها المتناسقة، ذات وجه باسم تكسوه حُمرة غضب، وعيناها تلمع فيها الدموع.
عندما ألقيت عليها التحية ردت بابتسامة، أظهرت فى بشرتها خطوط رقيقة متوازية فى ذقنها وعند ركني عينيها، ربما كان هذا ما يعطى وجهها تعبيره الباسم.
استغللت درسًا تعلمته هنا من الأوروبيين حين تريد أن تفتح حديثًا تقطع به الوقت وملل طول الطريق؛ ابدأ بالحديث عن الطقس.
وبدأت:
ـ إن الطقس اليوم قارص البرودة.. أليس كذلك؟
فأجابت:
ـ نعم.. حقًا.
وعادت لصمتها.
تعمقت في النظر إليها وهى شاردة، وشعرت أن كتله من الحزن تجلس أمامي على وشك الانفجار، شغلنى أمرها، شعرت برغبة فى مساندتها، فاقتحمت صمتها واقتربت منها وسألتها بصوت خافت:
ـ سيدتى.. هل كل شىء على ما يرام؟
فاجأتنى إجابتها:
ـ لا
فتراجعت للخلف كالملسوعة، ثم بعد لحظه قصيرة بمقدار ما يطرف العين؛ عُدت فسألتها:
ـ أستطيع أن أقوم بشيء.. فنحن نتقاسم نفس الموطن؟
فقط بعض الشجارات البسيطة بين أم وابنتها في عمر المراهقة. ولكن لم تشارك قسماتها لسانها.
وحينها سددت لها ابنتها نظرة لها بريق الخنجر وحدته.
فقلت فى نفسى هذا جيل عاق، وأحزنني أمر تلك الأم، وتوهمت أني وقتها فهمت الأمر، ولكني أعترف أنى أخطأت.
ذهبت الطفلة إلى مقعد آخر كى تستكمل عُزلتها.
وحينها؛ وجدت الأم تتجه نحوي بالحديث ويعتليها ندم ونوع من التوتر يسري فى صوتها وجسدها لا يكاد يُلحظ، ولكنى أشعر به.
ـ سيدتي.. لا أريدك أن تعتقدي أن ابنتي "عاق"، ولكن فى الواقع يوجد سبب حقيقي وراء كل ذلك...
بداية أنا اسمي "رجاء"، حديثة الطلاق بعد زواج دام ثلاثة عشر عامًا من زوج نزق.. سريع الغضب ..مندفع.. ضعيف العبارة.. سقيم الحجة، لا يتحدث إلا بلُغة التشاجر والتهكم، صوته العالي كان الشىء الثابت في عالم متحرك، زواجي منه كان زواج (صالونات)، لم أختره، ولم يختر فيّ إلا مظهري وقوامي، كنا نقيضين كالليل والنهار، نقطن نفس المسكن كلما تلاقينا، كنا نتصافح كما تتصافح السيوف، لا يعنيه من البيت والأسرة إلا حقوقه، وليس واجباته تجاهي أنا وأولاده، كان منهمكا فى عمله الذي لا يحسن إدارته، ويظن أن واجبه الوحيد هو أن يوفر لنا المسكن والملبس والمأكل، ومقابل كل ذلك لا بد من أن تسير كل الأمور وفقًا لرغباته متى وكيف شاء، كأنه محور هذا الكون...
قاطعتها...
ـ سيدة "رجاء".. لمَ تفشي إليّ بأسرارك؟ أنتِ لم تعرفى حتى اسمى...
فأردفت:
ـ إن الناس لا تبوح بأسرارها للأصدقاء.. ولكن للغرباء فى القطارات أو المقاهى العابرة.. فقط تتربص بى رغبة فى أن أتكلم...
فأنا أتكلم طوال الوقت ولكن مع نفسى.. ففى رأسى حوار لا ينقطع.
وواصلت:
ـ عشت معه كل هذه السنون من أجل أولادي، ولكن ضجر الأولاد، وأكثرهم ضجرًا هى "زهرة".. ابنتى الكبرى، فكانت شاهدًا على كل هذه الأحداث.. وفى يوم تجمع أولادي سائلين "متى ستضعين حدًا لتلك الحياة الأشبه بالموت؟"، حينها فقط وبعد تفكير دام شهورًا راجعت فيها أبوته، فلم أجده يومًا مربيًا موجهًا، ولكنه دائم التهكم على أولاده، لا يثنى على من أحسن صنعًا، فقط شجارمستمر، وبَعُدَ عنه الأولاد.. فلا يوجد بينهم حوار.. وإن احتاجوا شيئا لا يجرءون على طلبه منه، بل يجعلون مني وسيطًا، فهو فقط يأمر ولا يوجه (كونوا طبيعيين, تناولوا الطعام بطريقة حسنة.. تأدبوا فى الحديث...)...
لكن لم يُعلمهم يومًا ما هو الطبيعى، أو كيف تكون الطريقة الحسنة أو ما هى آداب الطعام والحديث.. وإلى آخره من أمور التربية، وعندما أشكو له أمرًا يجيبني "لا تشكي.. فلكِ يد ابطشى بها من لا يُطيعك من أولادك"...
اكتشفت فجأة أن أولادي أيتام.. وأني وحيدة أحمل على عاتقى كل شيء.. وزمرة ازدحام الحياة لم تعطنى فرصة أن أنتبه لذلك.. عزمت على الطلاق.. وقد كان.. والحمد لله.. ولكن ما أعانيه الآن أن أولادي يشيرون بأصابع الاتهام نحوي.. لأني كنت سببًا فى يُتمهم رغم أن أبيهم حي.. لم يتهكموا علي لطلاقي.. ولكن لعدم حسن اختياري الزوج الذى سيكون لهم أبًا.. يرددون دائمًا "لو أحسنتي اختيار شريك حياتك.. لكان لنا أب. لقد اخترت زوجًا وليس أبًا"...
أولادي صغار.. لم يَعوا بعد مسألة (القسمة والنصيب).. لم يَعوا أن هذا لم يكن اختياري بل قدري.
بعد نفس عميق تجاهد به نزول دمعة، أردفت:
ـ سيأتي يوم إن شاء الله.. ويكون كل شىء على ما يرام.
كلمات رددتها لتحافظ بها على تلك الواجهة التى تخفى وراءها الانهيار.
تلك الحكاية التى كانت بعيدة عني وعن عالمى، كيف استطاعت أن تنفذ إلى قلبى بكل هذا العمق؟
حزنت على تلك الطفلة المسكينة التى ظلمتها واتهمتها بالعقوق، وهى فى واقع الأمر بائسة تهفو لحضن أب يلملم اليتم الذى يعتريها، حزنت على تلك الزهرة التى تذبل قبل أن تتفتح، حزنت على إخوتها، إن الشقاء ندبة فى الروح، إن بدأت فى الطفولة فهى تستمر العمر كله، حزنت على "رجاء" وتمنيت أن يلبي الله رجاءها. ورجاء "زهرة".
من المسئول عن هذا الشقاء؟ أهى سذاجة التقاليد الفارغة أم الزواج التقليدى اللذان لم يمنحا "رجاء" حق الاختيار؟
أذكر الأعرابي حين سأل عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه عن حقوق الولد على أبيه، فأجاب ابن الخطاب (أن ينتقي أمه ويحسن اسمه ويعلمه الكتاب)، وبالطبع هى نفس حقوق الولد على أمه.
التعليقات