وصل الموظفون إلى مكان عملهم، فرأوا الشركة وقد تحولت إلى سرادق عزاء، ورأوا لوحة كبيرة كُتب عليها لقد توفي أمس الشخص الذي كان يُعيق تقدمكم ونجاحكم في هذه الشركة، فاندهشوا من صيغة الإعلان الذي شعروا فيه ببعض التهكم والسخرية، لكنهم شعروا ببعض الحزن على هذا الزميل الذي لم يعرفوا من هو حتى الآن.
ذهبوا إلى المكان المخصص للعزاء، ليجدوا جميع الحضور ينتظرون دورهم في لقاء الوداع للزميل المتوفي، والذي خُصصت له غرفة خاصة، وُضع فيها التابوت مفتوحاً ليتمكنوا من رؤيتة، ووصل الفضول زروتة بالنسبة للموظفين الذين يريدون رؤية هذا الشخص الذي كان يقف عائقاً أمام تقدمهم ونجاحهم.
وبدأ الموظفون دخول الغرفة التي وضع فيها تابوت بشكل منفرد، وكان الملاحظ أن كل شخص يخرج من الغرفة يفقد القدرة على الكلام ويترك الشركة ويخرج دون أن يتحدث لأحد، وكأن جناً قد مَسّه، والسر وراء ذلك أن مَنْ يدخل فينظر داخل التابوت، يجد مرآة مكان الكفن تعكس صورة كل من ينظر إلى داخل التابوت، وإلى جانبها لوحة صغيرة كُتب عليها:"هناك شخص واحد في هذا العالم يمكن أن يضع حداً لطموحك ونجاحك هذا الشخص هو أنت".
لا أعلم لماذا تذكرت هذه القصة عندما قرأت عن الحوار الذي دار بين الدكتور أحمد عمر هاشم والمستشارة تهاني الجبالي والذي لم يعدو أن يكون أكثر من مشادة كلامية، لكنها توضح باختصار كيف نختزل نحن المسلمين الدين في قضايا تبدو سطحية، وقد نتفرغ تماماً لمناقشتها، أمام أخرى أكثر أهمية ويحثنا عليها الدين أيضاً، هذا تماماً ما حدث في اجتماع أعضاء المجلس الأعلى للثقافة لمناقشة خطة وزارة التربية والتعليم لتطوير استراتيجية التعليم «2014 - 2029».
في هذا الاجتماع عرض الدكتور محمود أبوالنصر وزير التربية والتعليم (في ذلك الوقت) استراتيجية التطوير وما تم إنجازه، وما تم حذفه من حشو، مستدلاً بالحديث النبوي الذي يتم تدريسه لطلاب الصف الثالث الابتدائي، ونصه «يجوز للمسلم أن يكذب في ثلاث، الحرب، ومجاملة الزوجة، والإصلاح بين المتخاصمين»، وهو ما اعتبره حديثاً غير مناسب لهذه الفئة العمرية من الطلاب.
وقال أبوالنصر: حذفنا الحديث رغم صحته، فاعترضت المستشارة تهاني الجبالي، وقالت إن هذا الحديث غير صحيح، فاعترض الدكتور أحمد عمر هاشم مؤكداّ أن الحديث صحيح 100%، ولا يقصد به الكذب، لأنه يجوز في الحرب خداع العدو، كما يجوز قول الكلام الطيب للإصلاح بين المتخاصمين، وتركوا جميعاً استراتيجية التعليم التي ستحدد مصير أجيال قادمة على مدار 15 سنة وتفرغوا لمناقشة "جواز الكذب".
وهنا تصورت لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حاضراً هذا الاجتماع لنصحهم بتفريغ أذهانهم لمناقشة الاستراتيجية، وترك الحديث لأهل الحديث، لأننا لو نجحنا في وضع استراتيجية للتعليم، سننجح أيضاً في خلق أجيال لا تكذب، سواء أكان الحديث صحيحاً أم غير صحيح، فالدين الإسلامي أكثر عمقاً من تلك القضايا والمناقشات السطحية التي نشغل بها أنفسنا وغيرنا، ثم نعود لنتحدث عن أعداء الإسلام، لنكتشف أننا أكبر عدو للإسلام ولأنفسنا، فأيهم أهم وأكثر فائدة للإسلام والمسلمين: مناقشة استراتيجية التعليم لـ15 سنة مقبلة، أم مناقشة "جواز الكذب" من عدمه، أو صحة حديث من عدمه.
نعم، نحن أكبر عدو لأنفسنا، ولم يُعق تقدمنا ونجاحنا سوى الأفكار التي تقوقعنا داخلها، وجعلتنا نتخلف عن غيرنا، ونعتقد أن سبب فشلنا آخرين، وأن عدواً وهمياً يُحاربنا ولا يريد لنا أن ننجح ونتقدم.
كلمة أخيرة قالها الفيلسوف اليوناني أرسطو:
"إن المرء هو أصل كل ما يفعل"
محمد منير
رئيس التحرير
التعليقات