لرمضان فى مصر بهجة وأجواء إيمانية يشيعها فى النفوس، وخصائص فريدة، جعلت له طعما ولونا وشكلا لا يمكن أن تجده فى أى مكان آخر بالعالم، تشعر بذلك حينما تجبرك الظروف على قضاء الشهر الفضيل خارج أم الدنيا، حيث تفتقد الأجواء الرمضانية بكل روعتها، ومع ذلك تكتشف أن شه ر الصوم يجسد حالة فريدة من نوعها فى التعاطى مع قيم الدين بمنهج مخالف إن لم يكن معاكسا لتعاليمه، وبين هذه الأجواء المميزة، وتلك الحالة العجيبة مفارقات تستحق التأمل والتدبر!.
مظاهر البهجة التى يضفيها الشهر الفضيل لا تقتصر على الفوانيس والزينات التى تغير شكل الشوارع والكثير من المرافق، وتتجاوز الأطعمة المميزة، والأمسيات العامرة، الى حالة إيمانية تظهر قوة التماسك الاجتماعى المصري، حيث يتوحد المصريون جميعا فى تجسيد معانى الصوم، وتبرز مشاهد موائد الرحمن، أجمل ما يحمله المصرى من قيم العطاء، يظهر ذلك فى الكواليس والإعداد الذى يبدأ قبل رمضان بشهور حيث يتنافس أهل الخير فى تمويلها ويتنافس الشباب فى إعداد الأطعمة وتوزيعها على ضيوف الرحمن.
ولكن فى مقابل ذلك يتوقف المرء عند مفارقتين تجافيان قيم الشهر وتعاليم الدين، أولاهما تسليع العبادة بتحويلها إلى سلع وبزينس وللحقيقة لا تقع مسئولية ذلك على التجار الذين يجافى الكثيرون منهم روحانيات الشهر حينما يغالون فى الأسعار، وإنما يشاركهم عموم الصائمين حينما تحولوا الى زبائن مضمونة لهم.
نعم فكرة تسليع العبادة سائدة بالعالم، ولكنها تتخذ مناحى مؤثرة جدا فى مصر حيث يتجاوز إنفاق المصريين على الطعام فى شهر رمضان 35 مليار جنيه وفق تقرير مركز المعلومات، وترتفع معدلات استهلاك السلع الغذائية خلاله بنسبة 70 بالمائة عن بقية شهور السنة، ويزيد استهلاك منتجات اللحوم والدواجن 50%.
والمدهش أنه فى خلال الأسبوع الأول وحده فى رمضان يتناول المصريون نحو 2.7 مليار رغيف خبز و10 آلاف طن من الفول و40 مليون دجاجة بحسب تقرير لغرفة الصناعات الغذائية، كما توضح أرقام الغرفة التجارية أن المصريين يأكلون فى رمضان نحو 50 ألف طن أرزا و20 ألف طن مكرونة وألف طن دقيقا فاخرا، و600 ألف طن دقيقا عاديا وأكثر من 72 ألف طن فراخا. يعنى ذلك أننا نستهلك 35% من الإنتاج السنوى خلال رمضان وأن 80% من دخل المواطن الشهرى، يتم صرفه على السلع الغذائية فى هذا الشهر.
يحدث كل هذا الإنفاق فى حين أنه شهر للصيام وليس موسما للطعام، ولعل جوانب من حكمته تكمن فى الامتناع عن شهوة الأكل والاحساس بجوع الفقراء، فضلا عن كونه فرصة ذهبية للتخلص من الدهون الزائدة وتجديد الخلايا، ولكن للأسف يحدث العكس بل إن الكثيرين يزيد وزنهم فى شهر الصوم!.
من ناحية أخرى تفاقم هذه المفارقة الأزمة الاقتصادية لأننا نستورد من الغذاء أكثر مما ننتج، وتصل المفارقة ذروتها حينما نعلم أن نسبة كبيرة من هذا الطعام تصل إلى أكثر من 30% مصيرها أكياس القمامة!.
أما المفارقة الثانية لهذا الفهم المعكوس فتتمثل فى التعامل مع كتاب الله: رمضان شهر القرآن، ولذا فمن المفترض أن يكثر الناس من تلاوته وتدبر معانيه والتعرف على تفاسيره، وهنا نتذكر كيف كان يتحلق الناس حول التليفزيون يوميا فى رمضان لسماع خواطر الشيخ الشعراوي، فضلا عن الإقبال على الأمسيات الرمضانية التى كان يحييها مشاهير القراء بالقاهرة والمدن الكبرى، وفى القرى كان قراء القرآن يحيون ليالى الشهر الفضيل فيذهب الناس الى المجالس الرمضانية للاستماع إلى آياته.
اليوم أتاح العصر الرقمى للناس سماعه على وسائل عديدة، ولكن المشكلة أنه حضر القرآن وغاب المستمعون، والمتدبرون لمعانيه، بعد أن حولته الرقمنة إلى رنات على المحمول، وتعامل معه التجار على انه طقس صوتى يتداخل مع بقية الاصوات فى الأسواق، حيث تجد غالبية المحال التجارية تشغل ترتيلات الذكر الحكيم بأعلى صوت من الصباح إلى وقت الإغلاق.
وبعضهم يضع ما تيسر له من الأصوات الخليجية المتوافرة بكثرة، ولكنهابعيدة عن الذائقة المصرية وتبدو صعبة الفهم.
وفى الوقت الذى ينشغل الجميع بالتسوق والفصال والمساومة، يظل صوت المقرئ فى الخلفية صاخبا ومعزولا عن اهتمام الناس، بما يخالف نهج القرآن نفسه الذى دعا إلى الإصغاء إليه، «وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (الأعراف: 204:) وهكذا للاسف - تم تحويل التلاوة إلى نوع من «تسليع العبادة» إما عبر «رنات» تبيعها شركات الاتصالات وإما أصوات تتوه فى زحمة الأسواق!
أيها الصائمون.. رمضان فرصة لتقليل تناول الطعام والإكثار من تلاوة القرآن.
التعليقات