مصر والسودان "حتة واحدة" بالتعبير السوداني و"دم واحد" بالتعبير المصري ونيل واحد ومساحة متاشبكة متلاقية وفقا لحقائق الجغرافية، وشعب واحد بحقائق التاريخ ، وقلب نابض بالمحبة وعلاقات أسرية ممتدة ليس فقط فى المدى المفتوح من أسوان إلى شمال السودان، وانما أيضا بطول وادي البيل، ويكفى أن الرئيس الراحل انور السادات الذي ولد بالمنوفية شمال الوادي والدته سوادنية.
"أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني ..أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني..
أغداً تشرق أضواؤك في ليل عيوني ..آه من فرحة أحلامي ومن خوف ظنوني" هذه الأبيات التي غنتها أم كلثوم، من قصيدة الشاعر السوداني الهادي آدم الذي تخرج من كلية دار العلوم بالجامعة المصرية، وتذكر إحدى الرويات حول قصة هذه القصيدة التي تضمنها ديوانه (كوخ الاشواق) ، أنه أحب طالبة مصرية زميلته واتفقا على الزواج بعد تخرجهما، وعندما تقدم لخطوبتها، وجد رفضا شديدا من والدها ولم تفلح كل محاولات الوساطة لتغيير هذا الموقف فعاد إلى السودان وظل حزينا لفترة طويلة حتى وصله خبر بموافقة والدها على زواجه ، فكتب هذه القصيدة، وبغض النظر عن مدى دقة هذه الراوية فإن هذا الشاعر كتب ايضا قصيدة (لن يرحل النيل) يصور فيها ذكرياته العزيزة في حي منيل الروضة بالقاهرة الذي سكنه في صباه، جاء فيها "يا نيل أنت رجائي فـي مخاطبتـي فكن رسولي إلي أهلـي وأقوامـي..وصِل أواصر قربى أنـت رائدهـا ومـد حبـل وصـال بينهـا نـامِ..
وكن على حذرٍ من كيد مضطغـن ِبـادي العـداوة والأحقـاد ظـلّامِ"
كما كتب واحدة من أقوى المرثيات عند وفاة الرئيس جمال عبد الناصر جاء فيها: "أكذا تفارقنا بغير وداع ياقبلة الأبصار والأسماعِ ..ماد الوجود وزلزلت أركانه لما نعاك إلى العروبة ناعِ "
هذا نموذج من ألاف القصصة التي حفل بها التاريخ في قوة وتشعب العلاقة بين الشعبين الشقيقين. لكل ذلك فإن اللقاء الأخوي بين قيادتي مصر والسودان خلال الأيام القليلة الماضية ضمن الدورة الثانية للجنة الرئاسية المصرية السودانية المشتركة وما صحابه من توقيع العديد من الاتفاقيات والاعلان عن مشروعات مشتركة ، يمثل إعادة الامور إلى نصابها، وايذانا بعودة الوعي لحقائق الدم والعرق والتاريخ المشترك بين البلدين الشقيقين.
ولعل توقيع اتفاق وميثاق الشرف الإعلامي، وبرنامج تنفيذي للأعوام 2018–2020 بمجال الإذاعة والتلفزيون بين الهيئة الوطنية للإعلام بمصر والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بالسودان، من أهم هذه الاتفاقيات، ليس فقط لمواجهة الاخطاء بل الخطايا المهنية والسياسية والثقافية التي يتركبها بعض الإعلاميين من الجانبين، وإنما أيضا لإعطاء مزيدا من الاهتمام الإعلامي وتدفق أكثر للأخبار والمتابعات الإعلامية بين البلدين، وتحصين خصوصية العلاقة الأخوية وتنميتها في نفوس النشئ والشباب.
وتمثل النتائج القوية والحصيلة المثمرة خلال هذا اللقاء لصالح البلدين، نجاح للجهود السابقة لجسر الهوة بينهما حيث بلغت اللقاءات التى جمعتْ بين قيادتى الدولتين 24 لقاء تقريبًا، وفقًا لتصريحات السفير السودانىّ بالقاهرة.
فقد تم ضمن أعمال الدورة الثانية للجنة الرئاسية المصرية السودانية، توقيع عدد من مذكرات التفاهم بين البلدين، شملت بروتوكول تنفيذي لإنشاء مزرعة نموذجية مشتركة لإنتاج المحاصيل البستانية،ومذكرة تفاهم بين وزارتي الزراعة المصرية والسودانية بمجال مكافحة دودة الحشد الخريفية. ومذكرات أخرى للتعاون بمجالات الهجرة، والصحة، والقوى العاملة والتنمية البشرية،والشباب والرياضة، والتعليم العالي والبحث العلمي وتنمية الصادرات بين البلدين وتبادل الخبرات بين حكومتي البلدين.وإلغاء حظر دخول المنتجات المصرية إلى السودان.
ولا يزال التعاون بين البلدين يحتاج الى المزيد من الجهود حيث لم يتجاوز إجمالى حجم التبادل التجارى بين مصر والسودان خلال الفترة من يناير – يوليو من العام الجارى 320 مليون دولار، وهو رقم ضعيف بالنظر لثروة البلدين وامكانيتاهما ، طبيعة العلاقة بينهما، كما أن الجانب الثقافي والإعلامي يحتاج الى المزيد من التعاون للانطلاق الى آفاق أرحب تليق بالعلاقة التاريخية والاستراتيجية بين الشعبين الشقيقين، واقترح تنظيم حملة ثقافية في ربوع البلدين للتوعية بأبعاد هذه العلاقات التاريخية التي تعرضت لمؤمرات عديدة على مدار التاريخ المعاصر بخاصة خلال الاحتلال الانجليزي الذي نجح في إحداث وقيعة وفتن من خلال بث معلومات خاطئة واشاعات مغرضة شكلت الخلفية النفسية المهيئة للاستجابة لأي خطأ إعلامي لتعقبه حملات كراهية يستفيد منها أعداء الدولتين.
البلدان عمق استراتيجى لبعضها البعض،وما يجمع بينهما يفوق بكثير ما يفرق. المثل السوداني: "جارك القريب ولا ولد أمك البعيد" ربما يلخص هذه العلاقة العريقة بين البلدين، عراقة النيل، ويؤكد أنها ستبقى كذلك للأبد، لأن النيل " لن يرحل" !
التعليقات