أبدا ما هنت يا إفريقيا يوما علينا.. بالذى أصبح شمسا سطعت ملء يدينا»، جيلنا تربى على هذا البيت وما تلاه بقصيدة الشاعر الفيتورى.. «إيه يا افريقيا الكبرى التى تبنى المشارق»، ضمن منهج اللغة العربية بالمدارس، وهو الجيل نفسه الذى انطبع فى ذهنه ان الدائرة الإفريقية هى إحدى الدوائر الثلاث لمصر بجانب الدائرتين العربية والإسلامية، لتأكيد تلك العلاقات المتراكمة التى ظل الاهتمام بها جزءاً من إستراتيجية الأمن القومى المصرية على مدى العصور. واذا كانت هذه العلاقات مرت بمراحل جذر ومد فى عهود سابقة، فإننا اليوم، ونحن على بعد ثلاثة شهور من تولى مصر رئاسة الاتحاد الإفريقى لابد من وقفة محاسبة مع الذات، ووضع استراتيجية مستقبلية لتوثيق الروابط المصرية الإفريقية. بنظرة سريعة على تاريخ هذه العلاقة، نجد أنه منذ العصر الفرعونى حتى اليوم، تراكمت العلاقات المصرية الإفريقية وأوجدت تفاعلات وآثارا كبيرة، وأن جوهر السياسات التى حكمتها، تتمثل فى مياه النيل والدين والتجارة. ولكن هذه العلاقة بلغت أوجها بعد ثورة 1952، فقد كان جمال عبد الناصر من مؤسسى الاتحاد الإفريقى، وأنشأ بمصر «الجمعية الإفريقية» وساند جميع حركات التحرر الوطنى بإفريقيا، وأطلق الإذاعات الموجهة باللهجات الإفريقية، كما تزايد حضور علماء الأزهر فى بلدان القارة السمراء، وترابطت حلقات هذه القوة الناعمة سياسيا وإعلاميا وثقافيا ودينيا. ولكن تراجع هذا الدور فى العقود التالية مع التغيرات التى حدثت بالتسعينيات، حيث تغيرت الأولوية من قضايا الاستقلال وتصفية الاستعمار، إلى قضايا التنمية وتصفية التبعية، وكان على الدولة المصرية أن تجد عوامل مشتركة جديدة مع إفريقيا، غير التى وجدت فى الحقبة الناصرية، ولكن بالعكس تقلص هذا الدور بخاصة عقب محاولة اغتيال الرئيس الاسبق حسنى مبارك، بإثيوبيا عام 1995.
هذا التراجع بلغ مداه بتعليق عضوية مصر فى الاتحاد الإفريقى عام 2013، ولكن سرعان ما تجازوت مصر كل ذلك واستطاعت العودة بقوة الى الحضن الإفريقى، بل إلى منصة القيادة، حيث تتولى مصر فى فبراير المقبل رئاسة الاتحاد الإفريقى.
وتتزايد أهمية عودة الدور التاريخى المصرى فى افريقيا فى الوقت الرهن، حيث بدأت أنظار العالم تتجه الى القارة السمراء وبلغ التنافس الدولى على الاستثمار فيها أشده ليس فقط من جانب الدول الأوروبية التى تربطها بالقارة علاقات تاريخية منذ الحقبة الاستعمارية، وإنما أيضا من جانب دول أخرى مثل الصين، وايران وروسيا، فضلا عن التغلغل الاسرائيلى بإفريقيا وأحدث حلقاته الاعلان عن قرب إعادة علاقات مع تشاد.
نعم ظهرت مؤشرات مصرية لعودة هذا الاهتمام منها: إعلان مبادرة مصر ـ إفريقيا لتطوير تكنولوجيا الألعاب الرقمية. التى أطلقتها القيادة السياسية خلال الأيام القليلة الماضية فى أثناء مؤتمر القاهرة الدولى للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وسبقتها مبادرة شعبية فنية أطلقها أعضاء مؤسسة «شباب بتحب مصر» بالتزامن مع اليوبيل الذهبى للاتحاد الإفريقى عام 2013 بعنوان «إفريقيا بعيون مصرية» فى محاولة لدعم التبادل الثقافى والفنى بين مصر ودول إفريقيا، ومشاركة شباب من إفريقيا فى منتدى شباب العالم منذ انطلاقه عام 2017.
ولكن هذا لا يكفى وإنما علينا وضع استراتجية شاملة تتضمن مختلف مجالات التعاون، فلا أقل من إنشاء وزارة لشئون افريقيا، وإذا كانت الجوانب السياسية تتأثر بضغوط القوى والدولة، فإن هناك مجالات أخرى يمكن استثمارها لاستعادة هذا الحضور المصرى، وأولها المجال الثقافى الذى تمتلك مصر أدواته ولديها تاريخ وخبرة طويلة فيه، وهنا يمكن الاستفادة من دراسة لنيل الماجستير نوقشت أخيرا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، للباحث أحمد عبد الفتاح حول (البعد الثقافى للدور المصرى فى إفريقيا)، أوصت بإنشاء المركز القومى للبحوث والدراسات الثقافية المصرية والإفريقية ليؤطر العمل الثقافى المصرى من خلال اشراك مختلف الدوائر والجهات ذات العلاقة، وتنظيم مهرجان فنى مصرى ــ إفريقى سنوى، على أن تنظمه مصر وتكون قاسما مشتركا فى كل دوراته وتحتضن مركزه الرئيسى، بحيث يشمل فنون الغناء والموسيقى والسينما والمسرح والفنون الشعبية الإفريقية، وإنشاء قناة فضائية إفريقية تستضيف مصر المقر الأرضى لها، وتبث باللغات الأكثر انتشارا فى إفريقيا.
ويجب أن يواكب ذلك تفعيل دور المراكز الثقافية والمكاتب الإعلامية للسفارات المصرية بالدول الإفريقية وتفعيل حركة الترجمة والنشر للإنتاج الإبداعى الإفريقى. وهناك العديد من المجالات الأخرى التى تحتاج إلى تنشيط التعاون مع دول القارة، بخاصة المجال الاقتصادى والاستثمارى والتعليم والبحوث العلمية. فلدينا الكثير الذى يمكن استثماره بهذا المجال الحيوى الذى ينبع منه شريان حياتنا وننتمى إليه بروابط تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ!
التعليقات