"في الزنزانة كان يوجد لدينا شماعة حديدية مخصصة لتعليق المساجين، حيث كنت أُعلقُ عليها بـ"الكلابشات"من قدمي لفترات طويلة قد تمتد لأكثر من 12 ساعة في وضع معكوس،تكون فيه قدماي لأعلى ورأسي لأسفل، الأمر الذي يؤدي بعد فترة قصيرة إلى انسحاب الدم من عروقي فأشعر بآلام رهيبة، ومضت ليالٍ طويلة كنت في معظمها أظل حتى الفجر معلقاً في مشجب زنزانتي،ولم يكتفوا بذلك بل كنا نضرب "بخيزرانة" سميكة جداً على القدم وقبل أن تتشقق كانوا يأمروننا بالجري بسرعة على البلاط إلى أن يجري الدم مرة أخرى في عروقنا ويصل إلى أقدامنا ليستأنفوا الضرب مرة أخرى، وبالطبع يحدث كل هذا من دون طعام أو شراب، فضلاً عن ذلك لا أتذكر ولو للحظة واحدة لم أسمع فيها صرخات عشرات المعتقلين الذين كانوا يُعذبون أمام زنزانتي، لكن تكرار التجربة منحتني ثقة كبيرة جداً في نفسي، وقد تعلمت في السجن أن الدنيا دوارة والحياة لا تثبت على حال، فمن الممكن أن يأتي يوم لا تجد فيه السيجارة أو الطعام أو الملابس أو حتى المكان الذي تنام فيه، في حين قد يأتي يوم آخر ستجد فيه كل شيء، لذلك تجدني سعيداً دائماً في كل الأحوال مهما كانت سيئة، لأنني أؤمن بأن قوة الإنسان الحقيقية تكمن في قدرته على الاستغناء".
هكذا قال لي الراحل الكاتب الكبير صلاح عيسى "رحمه الله" في حواري معه حول تجربة اعتقاله السياسي، وأتذكر جيداً كيف كان يروي لي عذاباته خلال فترة اعتقاله وهو يبتسم، رغم أنه كان في الدفعة الأولى للمعتقلين، ممن تعرضوا إلى التعذيب من أجل الاعتراف على بقية أعضاء التنظيم، وقد أكد لي ذلك الراحل جمال الغيطانيحيث قال لي نصاً: "لقد سحلوا صلاح عيسى وعلقوه ولم يعترف علينا. وهو نفسه لم يقل لي تلك المعلومة ولم يُزايد أو يتاجر بمواقفه النبيلة مع زملائه خلال فترة اعتقاله".
لقد نشأ الراحل الكبير وسط أيديولوجيات مختلفة جعلته يؤمن بالتعددية في الأفكار والانتماءات السياسية، فوالده كان وفدياً وعمه كان عضواً في حزب مصر الفتاة، وعاش سنوات شبابه خلف القضبان الحديدية لأنه لم يكن يوماً من هؤلاء الذين يملكون مهارة الاحتيال على الحق ليصبح باطلاً وعلى الأسود ليجعله أبيض، أو ممن ينادون لأدنى الأغراض بأنبل الشعارات.
نمت شجاعته مع التجربة ليؤثر إيجابياً في بناء الآخرين فهو من جيل لم يكن يملك حق تقرير مصيره نتيجة لظروف النشأة والتكوين، وهو من جيل عاش معارك الأسلحة الفاسدة والأنظمة الفاسدة، من جيل المعارك والاستقلال والأحلاف والتسليح وتأميم القناة ونكسة يونيو 1967، من جيل لم يمهله الرئيس الراحل أنور السادات الفرصة ليفرح بنصر أكتوبر 1973 وصدمه بزيارة كامب ديفيد.
روى لي كيف كانت زيارته الأولى للقاهرة في خريف عام 1948 عندما غادر قريته ليأكل الحلاة الطحينية بالعيش "الفينو"، وسندوتشات الطعمية للمرة الأولى، ويشاهد فريد الأطرش ولوريل وهاردي في السينما، ويسمع صفارات الإنذار وأصوات المدافع المضادة للطائرات ليعرف أن هناك حرباً ومن ثم يهتف في الظلام "طفي النور"، وفي اليوم التالي في الصباح يجمع شظايا النيران التي كانت تتساقط فوق سطح العمارة التي يقطنها، تلك الشظايا التي لم يكن يعرف أنها ستنفجر يوماً ما داخله وتصنع منه مناضلاً كبيراً.
ما زلت أذكر حديثه معي وهو يصف لي سجن القلعة وكأنه شارك في بنائه قائلاً إنه: مكون من 30 زنزانة على ثلاثة أجنحة وعنبر كبير، ولكل زنزانة باب مصفح من الحديد وآخر خشبي ضخم مزود بثقوب في أسفله لدخول الهواء ونظارة لكي يراقب منها الحارس السجين داخل الزنزانة، ولا توجد غير نافذة واحدة أعلى الباب، قطرها 30 سم في 40 سم، إلى أخر التفاصيل الدقيقة.
سألته وقتها كيف تتذكر كل هذه التفاصيل الدقيقة، قال: في المعتقل ليس لديك ما تفعله إلا أن تتأمل جدران زنزانتك.
أذكر أيضاً كلماته حول ما أضافته له تجربة اعتقاله قال: على مدار حياتي لا أحب أن يتملكني شيء ما،سواء أكان منصباً أم مالاً أو أي شيء آخر، أهوى التقشف تماماً لأن متعتي الوحيدة والأساسية في الحياة تتجسد في القراءة والكتابة، وقد اعتدت أن أحترم نفسي ولا أبتذلها فلا يوجد ما يدعوني للخوف أو الحرص على أي شيء.
وعلى مدار سنوات اعتقاله لم يفارق القلم أنامله، فكان يكتب باسم مستعار هو "أيوب محمد المصري" في جريدة العمال التي كان يرأس تحريرها عبدالله إمام، وبعد خروجه من السجن كان ممنوعاً من الكتابة فقرر أن يستمر في الكتابة بأسماء مستعارة في مجلة الطليعة التي كان يرأس تحريرها الراحل لطفي الخولي.
وخلال فترة سجنه في معتقل مزرعة طره كتب كتابه الأول "الثورة العرابية"، وكتب أيضاً مجموعة قصصية قصيرة نُشرت فيما بعد في كتاب بعنوان "بيان مشترك ضد الزمن"، وكتب رواية بعنوان "مجموعة شهادات ووثائق لخدمة تاريخ زماننا"، ووضع أفكاراً لمشروعات كتب مثل "حكايات من دفتر الوطن".
كان يفخر دائماً لكونه أول مصري وعربي توجه له تهمة القيام بعمل عدائي ضد إسرائيل وذلك عام 1981عندما شاركت بجناح خاص في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وحينها وزع بياناً بتوقيع عدد من الناشرين وممثلي النقابات المهنية يدعو لمقاطعة الجناح الإسرائيلي، وتم القبض عليه.
ورغم أنه كان معارضاً في كل العهود بداية من عهد جمال عبد الناصر مروراً بأنور السادات ونهاية بمبارك، إلا أن السادات قرر الإفراج عنه ورفع الحظر عن عمله، وبالفعل عمل في جريدة الجمهورية، ووقتها اقترح عليه بعض الزملاء أثناء أحداث 15 مايو 1971، وقضية مراكز القوى أن يهاجم خصوم السادات حتى يضمن مستقبلاً أفضل وفي الوقتنفسه رداً للجميل، لكنه رفض وعلى العكس تحدث عن الجوانب الإيجابية في عهد جمال عبدالناصر، ودافع عن المساجين والمعتقلين السياسيين، وطالب بالعفو عنهم في اجتماع عام في نقابة الصحفيين عُقد بعد حرب أكتوبر مباشرة، وأمام الدكتور كمال أبوالمجد وزير الإعلام وقتها، رغم أن هؤلاء الذين يدافع عنهم كانوا وراء قرار اعتقاله وفصله ومنعه من الكتابة.
كلمة أخيرة:
كتب الراحل الكبير على حوائط الزنازين التي سكنها وهو يسمع صراخ الذين كانوا يُعذبون "في هذا المكان سُجنت لأنني أحببت الوطن وناديت بالعدالة وأهنت إسرائيل
. إمضاء: صلاح عيسى".
وأكرر جملته المعتاده في نهاية كل لقاء أو محادثة هاتفية "مع السلامة يا جميل".
التعليقات