كنت أبحث عن ملف بين ملفاتي المحفوظة إلكترونيا فكانت في انتظاري مفاجأة. حاصرتني مجموعة من الصور القديمة كنت قد نسيت إني التقطها يوما لغيري أو التقطها لي أحدهم فكنت جزءا من المشهد وقتها. في غمضة عين هجمت علي الذكريات وتعالت الأصوات والهمهمات المنبعثة من بعض اللقطات الحية صوتا وصورة. اتسعت عيناي؛ كبر الصغار وشاب الكبار، غيب الموت بعض الأحباب وفرقت الأيام بيننا وبين من نحب.
كانت بعض الصور توثق لحظات سعادة بينما كما هي عادتي لم أدخر جهدا في تسجيل لحظات مرض أو مصاعب. تذكرت بيتا قديما وسجادة عتيقة، كوبا مفضلا وركنا دافئا. غلبني الشوق لشارع هاديء شهد ساعات من السعي اليومي الدءوب. تعجبت كيف اختفت وجوه كنت أراها بشكل يومي طواعية وبمحض إرادتها. كيف هانت عليهم عشرة السنين فقرروا الانسحاب كأننا لم نلتق يوما ولم نتشارك كسرة خبز أو سر هامس! عجيب أمر هؤلاء البشر! من كان يصدق ما ستؤول إليه العلاقة بيننا بعد بضع سنوات.
قلبت في الصور وانتابتني فجأة حالة من إرهاق بأثر رجعي وأنا أرى كيف كبر الصغار الذين كنت يوما أطأطيء رأسي لأتحدث إليهم واليوم، بعدما شبوا عن الطوق، هم من يحنون رؤوسهم لينظروا إلي. بين لحظة كانوا فيها صغارا أحملهم بين يدي للحظة كبروا فيها فيستحيل علي حملهم سنوات متخمة بالجهد والسهر والصراخ حينا والنقاش والجدال أحيانا أخرى. لم تكن التنشئة سهلة ولا الرعاية هينة. الأم تنسى ما تبذله من جهد ومن أرق ومن تضحيات. واليوم تذكرني الصور برحلة عمر ومشوار حياة. كنت لا أكاد أصدق وأنا أجول نظري بين ابن الأمس واليوم. لقد مررت بالكثير حقا فكيف لم أنتبه؟! بين صورة لأول يوم مدرسة تصرخ فيها ابنتي لأنها لا تريد الذهاب بعيدا عن المنزل وبين صورة أخرى وهي تغادر سنوات التعليم بعد إنهاء دراستها الجامعية تقبع الكثير من الذكريات والتفاصيل والمجهودات والإنجازات.
رأيت وجوها لم أعد أراها اليوم في حياتي بعد أن اختارت الغياب بلا رجعة. ترى هل كنت يوم التقطنا تلك الصورة معا أتخيل أن تتخلى عني صديقتي للأبد وأنني بعد عشر سنوات سأعاود تأمل الصورة التي تحولت دون مقدمات إلى آخر صورة تجمعنا! يقولون إن تكنولوجيا المستقبل القريب ستمكننا من العيش في الأجواء التي نريد مرة أخرى وأن بإمكانها إعادة إحياء الماضي في مخيلتنا. تأملت الصور مرة أخرى وأنا أفكر في هذه الفرضية. ترى هل أرغب حقا في العودة للماضي؟ أتراني أقبله أم أود تغييره؟ هل أنا راضية عن النسخة التي كنتها أم أنا ناقمة على شخصيتي القديمة؟!
أعرف صديقة نشب بينها وبين إخوتها شجار كبير لأنهم فتحوا ألبوم الصور العائلي القديم يوما فوجدوها قد طمست معالم وجهها في كل الصور التي تجمعهم سويا. كانت ترفض طفولتها وصباها وغير راضية عن نفسها لكنها تسببت في تشوه صورهم بدورها لأنها ببساطة كانت جزءا منهم شاءت أم أبت. على عكس تصورات صديقتي أعتقد أن الصور القديمة بكل ما تحمله من ذكريات ومواقف وما تثيره من مشاعر ندم أو رضا هي جزء من الحاضر فلولا الماضي ما كان الحاضر.
التعليقات