بحسب المعجم فاللجوء هو الاحتماء بمكان والاعتصام به هربا من شيء يسبب الخوف أو يعرض الحياة للخطر. واللاجيء هو من لاذ بغير وطنه فرارا من اضطهاد أو حرب أو مجاعة.
كنت على موعد وضعه القدر لي لأقابلهم لأول مرة في أوروبا. ذهبت في بعثة دراسية وظننت أن كل من سأقابله من العرب هم مثلي أو مثل زوجي أتوا للدراسة أو العمل. فوجئت لأول مرة بمصطلح اللاجئين وطالبي اللجوء.قابلت أجناسا وأعراقا مختلفة وسمعت لغات لم أعلم بوجودها وثقافات لم تمر على في أي كتاب قرأته من قبل.
تعرفت إليهم وعشت بينهم. جمعتنا اللغة الإنجليزية تارة واللغة العربية بلهجاتها المتنوعة تارة أخرى فكانتا جسر التواصل بيننا كل بحسب خلفيته. شاركوني قصصا يشيب لها الولدان عن رحلات خطرة خاضوها لينجو بأرواحهم وأرواح من يحبون. أسماها العالم (هجرة غير شرعية) بينما بالنسبة لهم كانت رحلات جحيم وكان فرارا من المقلاة إلى النار. اختاروا المخاطرة فالموت يحيط بهم لا محالة سواء بقوا في بلادهم أم تمسكوا بأملٍ واهٍ في النجاة. تركوا خلفهم كل شيء؛ الأهل والأرض، العز والجاه، الذكريات والحكايات تركوا كينونتهم وذهبوا إلى المجهول.
ابتلعتهم مياه البحار وتوارت جثامينهم في جبال وأراضٍ لا يعلم بمكانها إلا الله. منهم من تجمدت أوصاله حد الموت في مبردات ضخمة ومنهم من اختنق في شاحنات مخيفة تعبر الحدود ويعبر معها زمانهم. كم من طفل خطف بعدما تاه عن والديه وكم من فتاة أو سيدة كانت مطمعا لعصابات الاتجار بالبشر. ذاقوا الويلات وصنوف العذاب. (مجبر أخاك لا بطل) هذا هو حالهم. وما أقسى أن تكون مجبرا!
وعندما وصلوا إلى أرض جديدة تخيلوا أنهم وجدوا الأمان لكن يوما بعد يوم اشتعل الحنين للأهل ولذكريات ولت ولن تعود. بدأوا يدركون أن لا رجعة إلى سابق عهدهم وأنهم ربما لا يروا الأصحاب والرفقاء والأهل والجيران أبدا ما دامت الحياة. قسوة الإدراك أصبحت حينها أصعب من الواقع الأليم نفسه.
كنت أرى قلق الأمهات على أطفالها الذين وفروا لهم الحياة والأمان من التشرد والقتل لكنهم يفقدون لغتهم وهويتهم. ظهر لهم نوع آخر من الرعب. لم تعد ترعبهم أصوات الطائرات والانفجارات بل أصبحوا يرتعبون من فكرة الانسلاخ عن دينهم وهويتهم العربية. قالت لي إحدى السيدات أنني مهما ىعاطفت معهم لن أفهم معنى أن تصبح بين يوم وليلة وقد ذهب كل شيء تملكه وضاعت مدخراتك وأصبحت ريشة في مهب الريح تنتظر يد العون من هذا أو ذاك. (كنا أهل عز وجاه والآن نفرح بالفتات. يكفي أننا نواجه خطر الترحيل في أية لحظة. أصبحنا مساكين مستضعفين لا نملك قرار غدنا). كنا سواء تلفح وجوهنا الغربة بيد أنني كنت على يقين بموعد عودتي لبلادي بينما انقطعت بهم السبل!
عدت إلى وطني مصر بمنظور مختلف. يغبرني ترابه فأفرح وانحني لألتقط ذراته في فخر وشوق. هو نعمة تعودنا عليها ولا ندرك قيمتها الحقيقية. لذلك أثمن سعادة من استعاد وطنه المسلوب. رأيت من لاذ به من غير أهله ليلتحف أمانه. شعرت بمعاناة اللاجئين رغم تبدل موقعي من الغربة لمسقط رأسي. اختلفت الظروف المحيطة بي لكن لم تختلف مشاعري ولم يهتز تفاعلي مع أحزانهم وعندما أتي الفرج وتنفسوا الصعداء التي نسول مذاقها وجدتني أقفز فرحا لفرحهم وأذرف الدمع لسماع ويلات ما قاسوه. ليس من سمع كمن رأى وهم قد رأوا وعاشوا وعانوا بلا ذنب اقترفوه فحق لهم أن يفرحوا وأن يبتهجوا. عاشوا بيننا وكانوا جزءا منا فواجبهم علينا أن نشاركهم الفرح كما شاركناهم الحزن يوم دقوا أبوابنا طالبين الأنس وحسن الجوار. أغني معهم (جنة جنة جنة..تسلم يا وطنا. يا وطن يا حبيّب يا أبو التراب طيب).
الوطن غالٍ مهما صال الإنسان أو جال في هذه الحياة. يكفي أن تمشي آمنا مطمئنا بين وجوه تشبهك وأنفاس لا تحرقك. وطنك هو كنز ذكرياتك فعليه سار أسلافك وسيسير أولادك من بعدك. ليست شعارات رنانة ولا ديباجة تعودنا على كتابتها في اختبارات اللغة العربية فنحصل على علامة كاملة وكلمة شكر من المعلم بل هي حقيقة لا يدركها إلا من تغرب وابتعد قهرا أو غصبا فحن إلى لغته ودفء جوه ومذاق طعامه.
التعليقات