الحياة سلسلة متلاحقة من المشاهد السريعة، فى الغالب لا نتوقف لحظات لنلتقط أنفاسنا ونحن نلهث خلفها بكل أسف نتصور خطأ أننا نعيش ونتواصل ونتفاعل مع مَن وما حولنا، لكن الحقيقة أننا نتسابق للوصول إلى النهايات دون الاستمتاع بتفاصيل الرحلة، وحين تنتهى رحلتنا فى آخر العمر ننظر خلفنا فنجد آلافًا مُؤلفة من المناسبات التى مرت علينا وكانت فَيصَلّية ولم نحتف بها كما يجب لأننا كنا على عجالة من أمرنا.
وهذه آفة عصرنا الحديث (السرعة الجنونية) التى فقدنا معها حاسة التذوق فى حياتنا وصارت الأشياء تمر مرور الكرام بلا طعم ولا رائحة ولا روح، لقد لخص الكاتب الأمريكى ديكى ألجن فى كتابه الجديد (قصص قصيرة – بدون عنوان) ترجمة مأمون القانونى، الحياة بأكملها فى صفحتين من اللهاث المحموم تعالوا نقرأ سطوره، والتى تكشف كيف ندور فى دوائر لا تنتهى.
«اليوم استيقظت مبكرًا فى تمام الساعة السادسة صباحًا وجدت أمى تغير لى البامبرز وتأتينى بالرضعة اليومية، وفى هذه الأثناء كان أبى يعاتبنى على قلة النوم، لكنه فى النهاية قبلنى على جبينى ولعب معى بعض الوقت قبل أن يذهب إلى عمله، ثم فى السابعة قمت من السرير وبعد أن تناولت ساندويتش الجبنة الصباحية حملت شنطتى وأخذنى أخى مصطفى معه إلى المدرسة.
ووقفت فى الطابور مع الأولاد وضبطت لياقة قميصى، وبعدها ذهبنا إلى الفصل وبدأت الأستاذة إيناس تعلمنا كيف نرسم ورودًا ونلونها ثم حفظّتنا سورة الفيل، وفى الساعة التاسعة خرجنا أنا ويوسف زميلى بعد المدرسة وذهبنا لنشترى سجائر وكانت هذه هى المرة الأولى التى أدخن فيها.
ووقفنا عند مدرسة البنات للفت أنظارهن وعدنا إلى البيت سريعًا لنبدل ملابسنا ونذهب إلى الجامعة لأنه كان أول يوم دراسة وبالكاد وصلنا لنسجل مواد الفصل الأول وبعد التسجيل تركت يوسف زميلى وذهبت أنا ومها إلى مكتبة قريبة لطبع بحث التخرج، وظلت طوال الطريق تحكى لى عن أهلها وكيف أنهم يضغطون عليها فى موضوع العريس المتقدم لها، لكنى وعدتها بأننا سنكون معًا ثم أوصلتها إلى الجامعة وذهبت أنا إلى الشركة وكان هناك اجتماع هام يضم كل أعضاء وموظفى المؤسسة وقمت بطباعة التقرير الشهرى المطلوب منى قبل بدء الجلسة.
وبعد أن انتهينا من مناقشة كافة تفاصيل العمل، ذهبت إلى نسايبى ومن هناك طلعنا أنا ومها وحجزنا صالة العرس وتجاوزنا المشاكل الزوجية الموسمية وتدخلات الحموات والسلايف وأوصلتها إلى المستشفى لتلد وقبل أن أتوضأ لأصلى العصر وجدت مدرسة ابنتى تتصل بى لأحضر مسرحية طلاب الصف الخامس وكانت المسرحية فى تمام الرابعة واستمتعنا برؤيتها وأخذنا صورًا تذكارية وعدنا إلى المنزل أنا ومها وابنتى الكبرى وابنى الصغير الذى كان على موعد مع شركاء له فى الورشة المملوكة له. أخيرًا صار له عمل مستقل واطمأننت عليه.
واستأذنت عائلتى فى الانصراف لأزور والدتى فى المستشفى وانتهزت الفرصة بما أنى هناك وخضعت لعملية قسطرة بسيطة وقمت بتفتيت (حصاوى) مزمنة لم يكن لدى الوقت للتخلص منها قبل ذلك، وبالمرة تخلصت من المرارة، لكنى لم أستطع حضور دفن أمى لأننى كنت على موعد مع طيارتى وبالفعل سافرت ومرت سنوات لا أعلم عددها دون أن أشعر وعدت من الغربة ومعى فى حقيبة السفر جهاز ضغط وقياس سكر وعقود لسيارتين ومزرعة ومحلين تجاريين.. نعمة وفضل من الله.
وتوكلت على الخالق وعملت (قلب مفتوح) بعد فرح ابنتى، وبعد أن تعافيت من فترة النقاهة حضرت عيد ميلاد إيناس بنت بنتى وأعطيتها هدية ملونة وقابلت أخى الكبير مصطفى أخيرًا بعد طول غياب وحكينا كثيرًا وتطرقنا لموضوع ورث أمنا واتفقنا على كافة التفاصيل وتزوج ابنى من ابنة مصطفى أخى الذى توفى بأزمة قلبية اعتصرتنى بعد فقدان أخى الوحيد وبعد الدفنة عدت إلى منزلى وجاءتنى الشغالة حملتنى وغيرت لى البامبرز وشربتنى الأكل وحاولت أن ترفه عنى وأعطتنى صور أولادى وأحفادى ثم وضعتنى على السرير وذهبت، وتركتنى ألعن اليوم الذى أصبحت فيه عاجزًا عن الحركة».
التعليقات