في طريق عودتي من الإسكندرية إلى القاهرة في قطار السابعة صباحا، كان من حسن طالعي الجلوس على كرسي مفرد، النافذة على يميني ووجهي مع اتجاه حركة القطار.
من بداية الطريق وقبل كفر الدوار تركت التليفون من يدي وجلست استقرء كلمات الجمال على الأرض.
مروج خضراء وحقول خير، غيط أخضر زاهي وآخر يشوبه الصفار، غيط وليد وآخر شواشيه تشيخ، غيط مكتظ بالمياه وآخر ممتلئ بالحياة.
عبرني هذا المتلألئ الخجول الذي يُصَبِح على الكون ببهجة وبهاء … عباد الشمس ذو الدرر الصفراء الحية المبتسمة الحبيبة لقلبي … "دلال".
أوراق أشجار الصفصاف أم الشعور تتمايل بنعومة… "إمرأة منسدلة الشعر"، أشجار تتمايل مع الريح … "ذكاء"، أشجار عظيمة الحجم … "عِزة"، أشجار تحيط بالغيطان وتحميها … "أمن".
تُرَع وجداول المياه تتخلل المساحات الخضراء … "حياة"، أسراب من الطيور البيضاء تطير بتناسق منقطع النظير … "أمان"، تلاميذ يقفون على جوانب الطريق بزي ازرق سماوي … "أمل".
سحب رمادية يتناثر على أطرافها سحب بيضاء قطنية كثيفة من خلفهم سماء زرقاء تشع بقدوم الخريف … "رغبة"، حقول تغرقها مياه الزراعة تحف أطرافها عشرات من طيور ابو قردان الأبيض … "رزق". الطريق الزراعي تتسابق عليه سيارات واتوبيسات وعربات النقل بألوان متعددة … "سعي"، نخل باسقات يتدلى منه ثمار غنية زاهية حمراء … "كرامة".
حتى المقابر تصطف على ربوة متكاثفة مترابطة هادئة … "سَكينة"، قرى صغيرة تتبعها مروج شاسعة، قصور وفيلات، مصانع ومخازن… "حيوات".
وكأن مصر الجميلة حبيبتي تدب فيها الحياة وترسل لقلبي رسالة الصباح التي استقرأتها من تلك الطبيعة الساحرة مغازلة روحي بقوة وجمال.
لا تزال الحياة قادرة على إسعادنا مجانا ولا يزال متعة الطريق أجمل وأعظم ما يميز الرحلة.
كيف لمن يرى كل آيات الجمال تلك ألا تدب فيه الحياة؟ أليست صور البهجة رسالة تربت على قلوبنا المتعبة؟ ألا ترى يا صديقي أن جداول المياه التي تتخلل الحقول تضخ في عروقنا كذلك حب الحياة؟
لقد أصبحنا في دنيا بهية ونتجاهل بتساهل غير مُبَرَر كيف نعيشها.
تلك المكاسب الحِسية هي قاطرة التنمية لروحك هي الصباح المختلف الذي يجعل يومك يستحق جهد السعي فيه.
يمر القطار فوق كوبري عتيق يسمح لفرع النيل العظيم أن يسري بنعومة وتَلألُؤ من تحته، يمدك بصورة أخرى مقلوبة من ظل الأشجار على صفحته وكأن رسام عالمي قضى عمره ليسعدنا.
صديقي تحرى البهجة في كل ما حولك، ابحث عن شيء يغريك لإقامة حياة غنية، اجعل من تلك الدقائق القليلة مهارة لاكتساب السعادة.
في كل يوم لابد أن هنالك فضل ما يستحق العيش به ومعه لو أنك اطلقت لروحك وجوارحك العنان لتستمتع بالجمال من حولك.
الكون الأنيق من حولنا وصور الجمال وأُنس الونس بالناس يمكن أن يغير نظرتك ليومك وطريقة سعيك في حياتك ومتعة الاطمئنان فيها.
كتل البلح الأحمر على الجريد البرتقالي للنخيل تحدثت لقلبي بالكثير والكثير من البهجة والملاحة والسِحْر.
تَعَلَّم يا صديقي أن ترى بقلبك، أن تحس وتنتبه بعينيك، ثم تتحدث بعقلك … فيكون لك من حلو الكلام ما يجعل ضغط دنياك يتسرب في زفير أنفاسك مخلفا صدر يتنفس بعمق أكسجين أكثر سعادة.
لا تستخدم الطريق في تعديد خسائرك ... بل في تعديل خسائرك!
صديقي … سأظل أدعوك أن تحيا، أن تبتهج، أن تتوقف عن سحق روحك، أن تستخدم الآيات البهية لإسعادك، أن تُربي الجمال في روحك، أن تتعلم استخدام حواسك لتنتفع منها وبها، أن تكون قادرا على فك أسر روحك، أن تنفصل بدقائق من السعادة فتعود لتتصل، أن تؤمن أن كل ما تحتاجه في رحلتك موجود بداخلك ومن حولك، أن تُعَظِم قدرات الطمأنينة في روحك لتستند على كتفي القوة والأمل، ثم تمضي في دنياك لا تخشى شيء وأنت مطمئن بالله.
في صبايا كنت أرى كل هذا الجمال من حولي واستمتع به ولا اسجله في عقلي وقلبي.
أما اليوم أصبحت قادرة على ادخار تلك القوة في أوصالي، التقط منشطات الحياة وأجيد التعامل معها، والأهم إنني قادرة على صياغة الجمال في كلمات دافعة تدخل إلى روحك دون أن استأذنك بعَشَم ألا تظل على قيد الحياة ... بل دوما على قيد الرجاء والتمني والغِبْطَة والإِنْشِراح.
التعليقات