يحتفل العالم في الثلاثين من سبتمبر/أيلول من كل عام بالترجمة، خصص هذا اليوم تحديدا للاحتفال تيمنا بالقديس جيروم أول مترجم أخذ على عاتقه مهمة جليلة ورسالة سامية وهي ترجمة الكتاب المقدس ليحوله من نص خاص بمجموعة صغيرة لنص آخر تتبادله جماعة أكبر واتسعت الدائرة من يومها. وتوالت السنون وتعددت اللغات والثقافات والحضارات وكان هناك دوما شخص حمل على عاتقه مسئولية التقريب بينهما ومد جسور التفاهم وتذليل الطريق أمام وسائل فعالة لتبادل العلم والمنفعة العامة بين البشر.
يعتبر تعلم اللغات وإتقان أكثر من لغة مهارة وملكة يتميز بها أشخاص دون غيرهم. وعبر الزمن كان حامل اللغات صاحب مكانة مرموقة لا غنى عنه في بلاط الملوك فهو ناقل المعرفة وكل ما له ارتباط بمفردات الحضارة الأخرى وهو رسول الحرب والسلام. المترجم الذي ينقل الكلمة المكتوبة يدويا والترجمان الذي ينقل ما يريد الآخر قوله شفاهة هما لبنة من لبنات المجتمعات.
وتطور الزمن وتقدمت الأمم وتطورت معها الحضارة والكتابة وظهرت الكلمات المطبوعة ثم حدثت ثورة في عالم الحاسوب ولم تسلم الكتابة والترجمة من الأمر. ظهر المترجم الآلي وبشر المطورون ببرامج الترجمة التي تحول النص من لغة إلى أخرى في لمح البصر. زعموا أنها ثورة في عالم اللغات وأنها ستوفر الوقت والجهد فلا حاجة لمترجم وسيط بين اللغة المصدر وبين المتلقي من غير الناطقين بها. رحب من رحب ورفض من رفض وأنا منهم بكل إصرار وتعسف فاللغة العربية تحديدا لها خصوصيتها ونسيجها الغني بالمفردات والاستعارات والكنايات والبلاغة التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
اتهمني البعض بالرجعية ورفض التكنولوجيا ولم ألق بالا لما يقولون حتى وقعت بين يدي مجموعة قصصية مترجمة ما إن فتحتها وبدأت القراءة فيها حتى تيقنت بما لا يدع مجالا للشك أنها من ترجمة ما يطلق عليه برنامج ذكاء اصطناعي. الجمل منقولة بترجمة حرفية منزوعة الروح والمعنى. ما هي إلا عبارات متراصة غير متجانسة لا رابط بينها ولا لاصق منطقي يبث فيها الحياة. أسماء الأعلام ترجمت دون وعي كما لو كانت كلمات مصمتة فترجم اسم البطل واسم البطلة بآلية فلم أرَ ذكاء يذكر. لم أجد بالطبع مراعاة لفرق الثقافتين فلا توجد هوامش ولا شروح لمعاني بعض الكلمات الخاصة التي تستعصي على الفهم بمعزل عن الخلفية الحضارية والمجتمعية للغتها الأم.
أصابني الضيق والتيه. تنقلت بين الصفحات ألملم شتات الكلمات دون جدوى وأحاول ربط الجمل لتكوين قصة مفهومة فعجزت. وودت لو أضعها عبرة لمن يعتبر ولم تسول له نفسه الإدعاء بأن الترجمة حرفة آن لها الانقراض والاستبدال بمترجمين آليين ينجزون المهمة قبل أن يرتد طرف المترجم البشري! لا يقتصر نقل النص من لغة إلى أخرى على مجرد تحويل الكلمات لنظيراتها في اللغة الهدف بل هناك منظومة متكاملة من ترتيب الجملة وتنسيقها وتفسير مبهماتها وخلفياتها الثقافية وإلا فما الفائدة من قراءة أعمال أدبية من عوالم أخرى إن لم يزودني المترجم بهامش يشرح لي فيه ما استعصى على فهمه ويحترم إنسانيتي وحقي في المعرفة؟!
ستظل الترجمة الحقة نتاج تلاحم ثقافات وقراءات المترجم يبث فيها من روحه ويكسبها قدرا من البهاء والبيان يجعلها تبدو كما لو كانت نصا مكتوبا بلغته لا منقولا من لغة أخرى. انقرضت الكثير من المهن اليدوية والحرف التي أبدع فيها صانعوها لكن مهما تطورت الوسائل الحديثة والتقنيات المتسارعة تبقى للترجمة خصوصيتها وأصالتها التي لا تكتمل دون صائغ ماهر يعرف كيف يصوغ عباراته بجمال جنبا إلى جنب فيقدم جمال المعنى والمبنى.
التعليقات